سادساً: إبطال نسبة الأسفار الخمسة لموسى عليه السلام


سادساً: إبطال نسبة الأسفار الخمسة لموسى عليه السلام

يزعم اليهود والنصارى أن موسى هو صاحب الأسفار الخمسة ، يقول القس سويجارت: " ونحن نعتقد أن موسى كتب ما يسمى بالأسفار الخمسة ، تلك الكتب الخمسة الأولى باستثناء الترانيم القليلة ، وسفر التثنية ، وربما يكون قد كتب هذا أيضاً ، لأننا نعلم ..أن للرب من القدرة ، بحيث يوحي إلى موسى بالضبط الكيفية التي يموت بها ، ويوحي إليه بدقة الهيئة التي يكون عليها جنازته ، وهذا ليس بمعضل على الرب".

وليس من دليل يؤيد هذا الزعم سوى ما ذكرته النصوص التوراتية والإنجيلية.
لكن عند الرجوع إلى هذه الأسفار يتبين أنها كتبت بعد موسى عليه السلام بوقت طويل، وفيما يلي بعض هذه الأدلة :
 
قصر توراة موسى بالنسبة للتوراة الحالية :
- تحدثت أسفار العهد القديم عن توراة موسى، ومنه ما جاء في سفر التثنية " وكتب موسى هذه التوراة وسلمها للكهنة بين لاوي حاملي تابوت عهد الرب " ( التثنية 31/9 - 10 ) وكان ينبغي أن تكون نهاية التوراة هنا ، ولكن الذي نراه أنه جاء بعدها ثلاث إصحاحات ، والمفروض أن التوراة سلمت للكهنة من بني لاوي.
- أن توراة موسى قصيرة، فيما أسفاره الخمسة تبلغ 400 صفحة، الذي كتبه موسى قصير جداً بالنسبة للأسفار الخمسة ، فقد أمر موسى بجمع بني إسرائيل نساءً وأطفالاً ورجالاً بل وحتى الغريب المار بأرضهم، أمر بجمعهم كل سبع سنين في عيد المظال لتقرأ عليهم التوراة (انظر التثنية 31/9 - 12 ).
ومن الدلائل على قصر توراة موسى أنه أمر بكتابتها على جدران المذبح " فيوم تعبرون الأردن إلى الأرض التي يعطيك الرب إلهك تقيم لنفسك حجارة كبيرة ، وتشيدها بالشيد ، وتكتب عليها جميع كلمات هذا الناموس ....وتكتب على الحجارة جميع كلمات هذا الناموس نقشاً جيداً " ( التثنية 27/2 - 8 ) وقد عمل بالوصية وصي موسى يشوع فكتبها على حجارة المذبح .
وبعد إتمام البناء قرأ يشوع التوراة على الجموع وهي له تسمع " كتب هناك على الحجارة نسخة توراة موسى ... بعد ذلك قرأ جميع كلام التوراة .. لم تكن كلمة في كل ما أمر به موسى لم يقرأها يشوع قدام كل جماعة إسرائيل النساء والأطفال والغريب السائر في وسطهم " ( يشوع 8/32 - 35 ) .

تناقض سفر يشوع مع الأسفار الخمسة :
- ومما يؤكد أن ليست التوراة التي كتبها موسى الأسفار الخمسة : مخالفة يشوع وصي موسى لما جاء فيها ، ولو كان يعرفها أو يعتقد صدقها لما خالفها، فإما أن يقال بأن سفر يشوع مزور ، أو لا تصح نسبة الأسفار الخمسة لموسى .
وبيان هذه المسألة أن موسى قال " كلمني الرب قائلاً : أنت مار بتخم مؤاب بعار ، فمتى اقتربت إلى اتجاه بني عمون لا تعادوهم ، ولا تهجموا عليهم ، لأني لا أعطيك من أرض بني عمون ميراثاً، لأني لبني لوط قد أعطيتهم ميراثاً " ( التثنية 2/16 - 20 ) فكان هذا هو أمر الله في حق أرض عمون .
ولكن يشوع في سفره ينسب لموسى أنه قسم أرض بني عمون، يقول: " وأعطى موسى لسبط جاد بني جاد حسب عشائرهم ، فكان تخمهم بعزير ، وكل مدن جلعاد ، ونصف أرض بني عمون إلى عير ، وعير التي هي أمام ربّة ... هذا نصيب بني جاد " ( يشوع 13/24 - 28 ).
فلو كانت هذه الأسفار توراة موسى لما نسب يشوع لموسى هذه المخالفة الصريحة.

أحداث ذكرتها التوراة وقد حصلت بعد وفاة موسى :
كما أن التوراة ذكرت أحداثاً حصلت بعد وفاة موسى في سيناء ، مما دل على أنها كتبت بعده، ومنه :
- تقول التوراة : " وأكل بنو إسرائيل المن أربعين سنة ، حتى جاءوا إلى أرض عامرة ، أكلوا المن حتى جاءوا إلى أرض كنعان " ( خروج 16/35 )، وفي سفر يشوع " فحل بنو إسرائيل في الجلجال .. في عربات أريحا ، وأكلوا من غلة الأرض .. وانقطع المن في الغد عند أكلهم من غلة الأرض " ( يشوع 5/10 - 12 ) فكيف يتحدث موسى عن أمر حدث بعد وفاته، حين دخلوا الأرض المقدسة، ومن المهم التنبيه إلى أن الخبر عن الماضي، وليس إخباراً بالغيب.
- ويذكر سفر العدد ما يشعر بأن كاتبه قد كتبه بعد جلاء بني إسرائيل من برية سيناء ودخولهم فلسطين فيقول: " ولما كان بنو إسرائيل في البرية ، وجدوا رجلاً يحتطب في السبت " ( العدد 15/32 ) فالكاتب ليس في البرية حتماً.أي ليس موسى عليه السلام فإنه قد مات في البرية قبل دخول الأرض المقدسة.
- ومن أدلة براءة موسى من هذه الأسفار قول التوراة: " وسكنوا مكانهم كما فعل إسرائيل بأرض ميراثهم التي أعطاهم الرب" ( التثنية 2/12 ) والنص يفيد أن الكاتب قد أدرك دخول بني إسرائيل الأرض المقدسة، وهو ما حصل بعد وفاة موسى عليه السلام.
- ومثله في قول التوراة، والمفترض أن الكاتب هو موسى " اجتاز أبرام في الأرض إلى مكان شكيم إلى بلّوطة مورة. وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض (فلسطين)" ( التكوين 12/5 - 6 )، فالكاتب أدرك خروج الكنعانيين من الأرض بعد دخول بني إسرائيل، فهو ليس موسى.
- ونحوه قول الأسفار: "وكان الكنعانيون والفرزّيون حينئذ ساكنين في الأرض" (التكوين 13/7 ).
- ونحوه في قوله: " وهؤلاء هم الملوك الذين ملكوا في أرض أدوم قبلما ملكَ ملِكٌ لبني إسرائيل" ( التكوين 36/31 ) فالكاتب قد أدرك عهد الملكية الذي كان بعد موسى بأربعة قرون.
- لكن الطامة الكبرى أن يذكر هذا الخبر في أسفار موسى " فمات هناك موسى عبد الرب في أرض مؤاب حسب قول الرب ، ودفنه في الجواء في أرض مؤاب مقابل بيت فغور ، ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم ، وكان موسى ابن مائة وعشرين سنة حين مات ، ولم تكل عينه ولا ذهبت نضارته ، فبكى بنو إسرائيل في عربات مؤاب ثلاثين يوماً ، فكمُلت أيام بكاء مناحة موسى " ( التثنية 34/5 - 8 )، والملاحظ دوماً أنه حديث عن الماضي البعيد، وليس إخباراً عن المستقبل.
 
مسميات ظهرت بعد موسى :
وتذكر الأسفار الخمسة أسماء كثيرة لمسميات لم يعرفها بنو إسرائيل إلا بعد موسى، ولم تسم بهذه الأسماء إلا بعد قرون من وفاة موسى فكيف ذكرتها توراة موسى إذاً ؟
- ومنها " ثم رحل إسرائيل ونصب خيمته وراء مجدل عدر " التكوين (35/21 ) وهو اسم لمنارة في هيكل سليمان بنيت بعد موسى بأربعمائة سنة .
- ومثله " وتبعهم إلى دان " ( التكوين 14/14 ) وقد سميت بهذا الاسم في عهد القضاة، أي بعد موسى بما يربو على مائة سنة، يقول سفر القضاة: " وجاءوا إلى لايش ... ودعوا اسم المدينة دان، باسم دان أبيهم " ( القضاة 18/27 - 29 ).
- ونحوه ما جاء في التكوين وفيه " لأني قد سرقت من أرض العبرانيين " ( التكوين 40/15 )، ولم تسم فلسطين بهذا الاسم في عهد موسى، إذ لم يدخل العبرانيون بعد .
- ومثله " وجاء يعقوب إلى إسحاق أبيه إلى ممرا قرية أربع التي هي حبرون " ( التكوين 35/27 )، ولم تسم حبرون ( الخليل ) بهذا الاسم إلا في عهد يشوع " فباركه يشوع ، وأعطى حبرون لكالب ... واسم حبرون قبلاً قرية أربع، الرجل الأعظم في العناقيين" ( يشوع 14/13 - 15 ).
 
إعترافات مثيرة :
وبعد هذا كله كان لابد من أن يعترف أهل الكتاب بعدم صحة نسبة الأسفار الخمسة لموسى ، وقد كان من أوائل من فعل ذلك منهم ابن عزرا الحبر اليهودي الغرناطي ( تـ 1167م ) حين ألغز ملاحظته فقال في شرحه لسفر التثنية: " فيما وراء نهر الأردن ... لو كنت تعرف سر الإثني عشر .. كتب موسى شريعته أيضاً ... وكان الكنعاني على الأرض ... سيوحي به على جبل الله ... ها هوذا سريره ، سرير من حديد ، حينئذ تعرف الحقيقة " ولم يجرؤ ابن عزرا على كشف الحقيقة فألغزها .
وقد فسر اليهودي الناقد اسبينوزا قول ابن عزرا بأنه أراد بأن موسى لم يكتب التوراة لأن موسى لم يعبر النهر ، ثم سفر موسى قد نقش على اثني عشر حجراً بخط واضح ، فحجمه ليس بحجم التوراة ، ثم لا يصح أن تقول التوراة بأن موسى كتب التوراة ، ثم كيف يذكر أن الكنعانيين كانوا حينئذ على الأرض ؟ ، فهذا لا يكون إلا بعد طردهم منها ، وأما جبل الله فسمي بهذا الاسم بعد قرون من موسى ، وسرير عوج الحديدي جاء ذكره في التثنية (3/11-12) بما يدل على أنه كتب بعده بزمن طويل .
ويعترف أيضاً في القرن التاسع عشر القس نورتن بعدم صحة نسبة الأسفار لموسى فيقول: " التوراة جعلية يقيناً، ليست من تصنيف موسى " .
وفي مدخل طبعة للكتاب المقدس باللغة الانجليزية صدرت عام 1971م سجل محررو الطبعة تشككاً في إلصاق الأسفار بموسى فقالوا: " مؤلفه موسى على الأغلب " .
وكانت المطبعة الكاثوليكية قد أصدرت عام 1960م طبعة للكتاب المقدس جاء في مدخلها " ما من عالم كاثوليكي في عصرنا يعتقد أن موسى ذاته كتب كل التوراة منذ قصة الخليقة ، أو أنه أشرف على وضع النص الذي كتبه عديدون بعده ، بل يجب القول بأن هناك ازدياداً تدريجياً سببته مناسبات العصور التالية الاجتماعية والدينية “، ومثله في المدخل الفرنسي للكتاب المقدس .
وتذكر دائرة معارف القرن التاسع عشر “ العلم العصري ، ولاسيما النقد الألماني قد أثبت بعد أبحاث مستفيضة في الآثار القديمة ، والتاريخ وعلم اللغات أن التوراة لم يكتبها موسى عليه السلام ، وإنما هي من عمل أحبار لم يذكروا أسماءهم عليها ، وألفوها على التعاقب معتمدين في تأليفها على روايات سماعية سمعوها قبل أسر بابل " .
ويقول نولدكه في كتابه " اللغات السامية ": " جمعت التوراة بعد موسى بتسعمائة سنة، واستغرق تأليفها وجمعها زمناً متطاولاً تعرضت حياله للزيادة والنقص ، وإنه من العسير أن نجد كلمة متكاملة في التوراة مما جاء به موسى " .
ويقول جارودي في كتابه " إسرائيل والصهيونية السياسية " : " ليس هناك عالم من علماء التوراة وتفسيرها لا يقر بأن أقدم نصوص التوراة قد ألف وكتب على الأكثر في عهد سليمان ، وهذه النصوص ليست إلا تجميعاً لروايات شفهية ، وإذا التزمنا بمعايير الموضوعية التاريخية كان علينا الإقرار بأن هذه الروايات التي تتحدث عن ملاحم مرت عليها قرون ليست أكثر تاريخية - بالمعنى الدقيق للكلمة - من الإلياذة أو الرامايانا"..
فهل يقال بعد ذلك : هذه الأسفار الخمسة من كلام موسى أو الله ؟ 

0 commentaires:

إرسال تعليق