قصة الفتى النصراني عماد الذي هداه الله إلى الإسلام من أعجب القصص وأغرب الحكايات .. تنطق بالنعمة التي تطوق رقبة كل مسلم .. في الزمن الذي تخلى فيه كثير من المسلمين عن تقدير تلك النعمة .. وعن توقير حق هذه المكرمة .. عسى الله أن يجعل في هذا يقظة لقلوب غافلة .. إنها نعمة الإيمان...
يقول عماد:
الحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى جميع إخوانه من الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه وسلم وبعد،
بتوفيق الله وبمشيئته سأتحدث عن أسرتي قبل الإسلام وبعد الإسلام وأحب التأكيد على القيمة الكبرى لنعمة الإسلام، فالمسلم الذي يعيش في ظل عقيدة التوحيد يتمتع بنعمة عظيمة منّ الله بها عليه ألا وهي نعمة الإسلام. كان لزاما علي أن أبدأ حديثي بهذا التأكيد قبل أن أقص قصتي.
أسرتي قبل الإسلام:
كانت أسرتي تتكون مني وأختي وأمي وأبي .. أربعة أفراد فقط وكانت أسرة نصرانية متدينة تواظب على دروس الكنيسة وتؤدي العبادات النصرانية بانتظام، وكنت أختلف إلى دروس الكنيسة مع أسرتي وكنت أواظب على أداء الصلوات وكان والدي يعمل في تجارة الحبوب، وكنت منذ صباي ألازمه في متجر الحبوب الذي كان ملكًا للعائلة الكبيرة التي تتكون من الجد والجدة والأعمام والعمات، وكانت لي مكانة مميزة لدى الجد والجدة برغم وجود أبناء العائلة وأولاد الأعمام، وكنت الأثير لديهم ، وكنت سعيدًا بهذه المكانة التي ميزتني عن أفراد العائلة وأبناء العم حتى إن الجد كان يفاخر دائما أبناء العم بذكائي ومهارتي في التجارة برغم حداثة سني حينذاك مما كان يغيظ أبناء أعمامي جدًا، وحتى عمي الذي لم يرزق أولادًا كان يبدي إعجابه بي ويقول : ( إنني أعتبرك مثل ابني، وأنا على يقين بأن والدك لا يعرف قيمتك مثلي ) والحمد لله رب العالمين كنت ماهرًا في التجارة ماهرًا في التعامل مع الناس حتى اشتهرت بالدقة في الميزان وحسن التعامل مع المشترين، الأمر الذي حببهم في متجرنا وكان لي أسلوبي اللطيف الطيب في المعاملة مما فطرت به ونشأت عليه، والحمد لله كنت بأسلوبي ذلك متمشيًا مع أدب الإسلام الذي جعل الدين المعاملة والكلمة الطيبة صدقة والابتسامة في وجوه الناس صدقة وكنت سعيدًا بهذا التقدير أيما سعادة ...
وقد شعر الفتى بتوجه أمه نحو الإسلام وميلها إليه، ونفورها من النصرانية وكان ذلك في شهر رمضان منذ نحو أحد عشر عامًا، فقد وافق صيام شهر رمضان الصيام عند النصارى حيث يفطر المسلمون عند أذان المغرب ويفطر النصارى بالليل عند ظهور نجم معين في السماء ، ولاحظ الفتى أن أمه تفطر عند سماع أذان صلاة المغرب فيدهش لذلك من أمه، ويتساءل في نفسه كيف تفطر أمه مع المسلمين، ويستمهلها حتى يظهر النجم - كما هو الحال في صيام النصارى - فتجيبه بأنها ترى النجم في السماء وقد ظهر ! ويرد الصبي - في براءة - أين هو ؟ إنني لا أراه ! فتجيبه بأنها تراه. وتقول له: ولكنك لا تراه وتشير إلى السماء! وأدرك فتانا بعد ذلك أن أمه كانت بسلوكها تتجه نحو الإسلام، وأنها كانت تصوم صوم المسلمين.
موقف آخر يقصه الفتى عن تعلق أمه بدرس التفسير الأسبوعي للشيخ: محمد متولي الشعراوي - رحمه الله - فيقول: ( لاحظت أن لحديث الشيخ الشعراوي الأسبوعي أثرًا أشبه بالرعد في آذان المتعصبين من النصارى، وساعة الحديث الأسبوعي ساعة نحس عندهم وتمثل عبئًا نفسيًا ومعاناة لهم ، بيد أن الأمر كان مختلفًا مع أمي كل الاختلاف حيث كنت أراها تفتح التلفاز وتشاهد درس الشيخ الشعراوي الأسبوعي يوم الجمعة فأسألها دهشا ! ماذا تصنعين ؟! فتجيب قائلة: أتابع هذا الشيخ لأنظر ماذا يقول ؟ وأسمعه ربما يخرف ! ولم أكن أدري أن ردها عليّ وقتها كان من باب التمويه حتى لا أخبر أبي!
وهناك برنامج آخر كانت تتابعه أمي وهو برنامج (ندوة للرأي) أراها تشاهده فلما أنكر عليها ذلك مستفسرًا ترد قائلة: أشاهد وأسمع لأرى ما يقوله هؤلاء العلماء عن النصرانية والنصارى ! فأسمع جوابها دون تعليق ... وأواصل مراقبتها، وكانت أمي سمحة المعاملة لطيفة المعشر، وكادت في معاملتها تبدو أقرب للإسلام والمسلمين، حتى أن أحد القساوسة سبّها ذات مرة لأنها حلفت أمامه قائلة: والنبي - على طريقة العامة من المسلمين في مصر وكما هو معلوم بأن ذلك لا يجوز شرعًا - فسبّها القس ونهرها قائلاً لها: أي نبي ذلك الذي تقصدين ؟! وعنفها حتى سالت الدموع من عينها.
يقول الفتى: (ولما فكرت أمي في الإسلام، استدعتني ذات مرة وقالت لي: تعال يا عماد أنت ابني الوحيد ولن أجد أحدًا يسترني غيرك! فقلت لها خيرًا يا أمي، فقالت: أنت ابني الكبير وأنا مهما كانت الأمور وفي كل الأحوال أمك .. ومن المستحيل أن تتخلى عني أو ترميني في التهلكة ، فقلت لها: نعم يا أمي. فقالت: ماذا تفعل لو أن أهلك قالوا عني كلامًا سيئًا ورموني بتهم باطلة ؟! فقلت لها: ولم يفعلون ذلك وهم جميعا يحبونك. قالت: ماذا تفعل لو حاولوا قتلي والتخلص مني ؟ فقلت لها: كيف ذلك ؟ ولم يحاولون قتلك وهم يحبونك ؟! قالت: ماذا تفعل لو صرت مسلمة ؟ هل ستحاربني مثلما الحال مع أبيك وأعمامك وأخوالك وأقاربك ؟! فكانت إجابتي لها: الأم هي الأم وأنت أمي في كل الأحوال).
ولكن الفتى دهش لحديث أمه إليه وأوجس في نفسه خيفة، وقوّى ذلك الإحساس لديه كثرة مشاجرة أبيه مع أمه في شأن رغبتها في اعتناق الإسلام وكانت تصارح أباه في هذا، وكان أبوه يغضب من تهديدها بترك النصرانية ويتحداها أن تعتنق الإسلام.
وذات يوم عاد الفتى إلى المنزل قادمًا من مدرسته فلم يجد أمه التي كانت تنتظر مجيئه كل يوم، فأسرع إلى أبيه في متجره يسأله فزعًا عن أمه فيجيبه الوالد بأنها في البيت ، ويتساءل الأب - في هدوء - : أين تراها قد ذهبت ؟! لعلها ذهبت إلى إحدى صديقاتها ! فيقول الفتى: إن خزانة ملابسها خالية تمامًا ! فصمت الوالد قليلاً وتعجب للأمر وأقسم أنه لم يغضبها ، ولم يقع بينهما ما يوجب الخلاف أو الغضب، فجعل يسأل عنها في كل مكان يمكن أن تذهب إليه … وكانت الصدمة .. أنها أسلمت ! أسلمت وأعلنت إسلامها أمام الجهات المسؤولة ولن تعود إلى البيت أبدًا .. فجن جنون العائلة كلها وفقدت توازنها وصارت تقول في الإسلام والمسلمين كل ما يمكن أن يقال من ألفاظ السباب واللعن والتهديد والوعيد وصار الجميع من أخوال وأعمام فضلاً عن الأب في حالة عصبية انفعالية في الكلام والسلوك إنهم غاضبون من كل شئ ومن أي شئ … إنها الكارثة قد نزلت بهم ، وإنه الشؤم قد حل بساحتهم ، ويقول الفتى: وكنت أستمع إلى الشتائم توجه إلى أمي من الأقارب والأخوال والأعمام ، فمن قائل: إنها كانت تشبه المسلمين في كذا وكذا ، وهذا الخال يوجه كلامه إلي قائلاً : " انظر كيف تركتكم، وتخلت عنك وعن أختك ؟! انظروا من سوف يرعاكم ويقوم على تربيتكم ؟! " أما العم فقد كان يقول كلامًا مشابهاً ويقول موجهاً كلامه لي ولأختي: " ترى لو ذهبت أنت وأختك إليها وتوسلتما إليها وبكيتما بين يديها .. هل ترجع إليكم ؟! " ويواصل العم حديثه إلي قائلا: " اذهب يا عماد : اذهب إليها وابك بين يديها لعلها ترجع إليكم ! وكنت أسمع ذلك وأشاهد ما حولي ولا أحير جوابًا فقد كنت أنا أيضًا ضائقًا مما حدث وغير راضٍ وكان العم يذهب إليها في الجهات المختصة ليوقع الإقرار تلو الإقرار بعدم التعرض لها ... وأحيانًا كان يلقاها ويستعطفها كي تعود إلى ولديها لشدة حاجتهما إليها، ولكن أمي رفضت بشدة بعدما ذاقت حلاوة الإسلام والإيمان وأسلمت لله رب العالمين وتركتنا وديعة عند من لا تضيع عنده الودائع سبحانه هو خير حافظٍ وهو أرحم الراحمين، وأيقنت أن الله سوف يحرسنا بعينه ويرعانا برعايته.
ولم يزل الفتى يتردد على الكنيسة ودروسها ولا سيما درس الثلاثاء - وهو درس أسبوعي يهتم بالشباب والمراهقين بخاصة ، وبجمهور رواد الكنيسة بعامة - وكان درسًا مشهودًا يعرض فيه القس لكل ما يهم المجتمع والدين والسياسة ويقول ما يشاء دون خوفٍ من حسيب أو رقيب خلافًا للحال مع غير النصارى ، وخلال درس الثلاثاء ذات مرة تعرض القس لأم الفتى ! ويقول الفتى:( وكنت موجودًا ومعروفًا لجمهور الحاضرين، فقد كنت من عائلة معروفة بارتباطها القوي بالكنيسة ) ، وخلال المحاضرة نظر القس إلى الفتى وابتسم ابتسامةً خبيثة وصرح معرضًا بأمه موجهًا كلامه لجمهور الحاضرين قائلاً : " تذكرون فلانة الفلانية ( وذكر اسمها ) - ودون أن يذكر كنيتها (أم عماد)- التي أسلمت أراد المسيح أن يفضحها بعد أن خانت الكنيسة وهي الآن ملقاة في السجن في قضية من قضايا الآداب ! " وأسقط في يد الفتى وأصبح في حيرة شديدة .. هل هذا معقول ؟! - ويقول في نفسه : أبعد أن تسلم وجهها إلى الله وتجازف بترك دينها ولا تخشى العواقب - مهما كانت - تدخل السجن ؟! واتجهت الأنظار إلى شخصي وصوبت سهامها نحوي وكأنني ارتكبت جرمًا عظيمًا وخرجت من درس ذلك اليوم كاسف البال ولم أعقِّب !!.
وبينما كنت في تلك الحال الكئيبة وأنا أسير في الطريق إذا صوت ينادي: ( يا عماد يا عماد ). إنه صوت أمي تسير قرب منزلنا لترانا على حذر وقد أرسلتْ من يستدعينا في غفلة من الأهل واقتربت فإذا أمي ... وتنتابني جملة من المشاعر المتضاربة في مزيد من الرغبة في الانتقام ممن ساعدوها على التعرف على الإسلام واعتناقه وبخاصة زميلاتها اللائى يعملن معها في حقل التمريض وشعور بالشوق والحنين إليها والتقدير لها ... إنها أمي ... مهما كانت وحبها كامن في قلبي فأقبلت إليها وسلمت عليها وكانت مع أناس مسلمين لا أعرفهم ... وكانت أمي ترتدي الحجاب ورأيتني أنظر إليها في دهشة وأسألها - في براءة - ألست مسجونة ؟! فأجابت في دهشة: ماذا تقول ياحبيبي ؟! ومامعنى: مسجونة ؟ هاك العنوان وأرجو أن تزورني ، وأعطتني العنوان وانصرفت.
وبرغم حبي لأمي إلا أنني لم أكن مستريحًا لتلك المقابلة وكان قلبي قلقًا ولم يكن اللقاء مفعمًا بالحب وبالعواطف الجياشة نحوها...
وأخذت العنوان وقفلت راجعًا إلى منزلنا أفكر في الأمر وبعد يومين أو ثلاثة عزمتُ على زيارة أمي على عنوانها الجديد في موعد يسبق يوم الثلاثاء اللاحق لموقف القس السابق في درس الكنيسة، وبلغت مسكن الوالدة وشاء الله أن يكون ذلك مع أذان المغرب ... يا سبحان الله .. وأستمع إلى أذان المغرب وكأني أسمعه لأول مرة برغم سماعي له آلاف المرات ولكن الأذان هذه المرة وقع مغاير تمامًا لما ألفته من قبل .
وتستقبلني أمي أثناء الأذان مرحبةً بي، وأراها وأسمعها تردد الأذان وهي لا تكاد تنتبه لحديثي إليها وبعد الأذان ذهبت فتطهرت وتوضأت ثم دخلت في صلاتها وجعلت تتلو القرآن في الصلاة بصوت مسموع فكنت لأول مرة أسمع القرآن من أمي، إنها تتلو سورة الإخلاص ، وكان لذلك وقع لا يوصف في قلبي وأثر ساحر في نفسي إن مشاعري في تلك اللحظة لا أقوى على وصفها ، فلقد شملني نورٌ ربانيٌ وتملكني شعور غريب تمنيت معه في تلك اللحظة لو جثوت على ركبي وقبلت قدم أمي وهي تصلي، شعرت بشيء ما يغسل قلبي، وداخلني صفاءٌ ونقاءٌ لم أشعر بهما من قبل، أجل إن شعوري في ذلك اليوم لا يمكن وصفه أو التعبير عنه ... إنه روح جديدة تسري في جسدي وعروقي، أحسست بمدى الظلم الذي وقع على أمي من ذلك القس في درس الثلاثاء الماضي، تمنيت لو خنقته لافترائه على أمي دون وجه حق، لماذا يشوه سيرتها ؟! أهذا عدل؟ وهل المسيح أمر بذلك ؟!
ولكن الأمر كان عند القوم مختلفًا إن لديهم قاعدة تقول: ( ابحث عن الخروف الضال قبل أن تبحث عن أحد الغرباء ليدخل الكنيسة ) والمعنى أنه يجب أن تبحث عن النصراني الذي ابتعد عن عبادة المسيح قبل أن تبحث عن أحد تغريه بعبادة المسيح، ويواصل الفتى تساؤله : لماذا يفتري ذلك القس على أمي ؟ ويشنع عليها ؟ ودخلت في صراع مع نفسي، وبعد الصلاة جاءت أمي بالطعام وعرضت علي أن أتناول الطعام معها، وقالت: هيا لتأكل معي أم أنك تخشى أن تأكل معي ؟! وأنظر بعينين تفيضان بالشوق إليها والإكبار لها، وأطالع في وجهها نوراً ونضارةً لم أعهدهما من قبل ، إنها أم جديدة غير التي ألفتها من قبل، إنها مختلفةٌ تمامًا .. ماهذه الوضاءة التي تنور وجهها ؟!! مالذي حدث ؟!
وتمضي تساؤلات الفتى تموج في أعماقه فيما كان يطالع وجه أمه فيقول: ماذا حدث لأمي ... لقد عشت معها عمري ... ما الذي جد عليها ؟! ما هذا النور الذي يفيض به وجهها ؟! يقول الفتى: وبرغم مشاعري المتناقضة وقتذاك من مشاعر حب الأم وكراهيتها لأنها خانت المسيح بتركها المسيحية ( حسب رأيهم ) ..... إلا أني أرى أمي مختلفةً تمامًا أرى في وجهها نورًا وبياضًا وجمالاً لم أعهده في وجهها من قبل... هل هي نضارة الإسلام ؟ أم هو نور الإسلام ؟ .... وتناولت معها الطعام وكنا وحدنا لم يشهد هذا اللقاء أحد من أهلي ... ثم ودعت أمي متوجها إلى البيت أعود لأستلقي على سريري وأسترجع أحداث زيارتي لأمي كأنها حلم جميل ... لا أكاد أصدق أن هذا حدث ... ويقترب موعد درس الثلاثاء التالي وأذهب إلى الكنيسة للاستماع إلى محاضرة القس الأسبوعية في يوم الثلاثاء التالي للثلاثاء الذي تعرض فيه لأمي بالتشهير والشتم.
وأعود إلى الكنيسة للاستماع إلى المحاضرة الأسبوعية وفي هذه المرة وخلال المحاضرة تجاوز القس كل الحدود في الإساءة لأمي والتعريض بها وسبها وإهانتها بأقذر الأساليب وبأشنع الافتراءات للدرجة التي زعم فيها أنه تحدث معها في السجن وقد زارها فيه ، فأعجبُ لمستوى الكذب والزور والبهتان الذي بلغه القس، وأدهش لمستوى التدني الذي انحدر إليه ، وبرغم ما يتمتع به ذلك القس وأمثاله من مكانة روحية كبيرة في نفوس أتباع الكنيسة إلا أني وجدت نفسي لا أحتمل السكوت عليه وعلى وقاحته فاندفعت أصيح في وجهه قائلاً : كفى إلى هذا الحد من فضلك ، وهذا أمر جلل أن يوقف فتى في سن المراهقة مثلي القس المحاضر في الجمهور وهو الأب الروحي للكنيسة وروادها، ويقاطعه فتى بهذه الجرأة وبهذا الأسلوب الغاضب المهين، ويواصل الفتى كلامه الغاضب للقس قائلاً : انتظر من فضلك .. كفى إلى هذا الحد، توقف ! أنت كذاب.
وهنا يتدخل جمهور الكنيسة في محاولة للحد من ثورة الفتى وإسكات غضبه يذكرونه بمكانة الرجل ويناشدونه الهدوء والسكوت ، ولكن دون جدوى ؛ لأن الفتى لم تهدأ ثورته و لم يملك غضبه وواصل إنكاره على القس الذي التفت إليه في محاولة لتهدئته قائلاً : مالك يا عماد؟! .. اسكت يا بني. .. ماذا بك ؟ .. ماذا في الأمر ؟ .. ويجيبه الفتى: لا. أنت كذاب ، ويتوجه إلى جمهور الحاضرين قائلاً : يا جماعة ، أنا كنت عند أمي (وأقسمت لهم بقسم المسيح عندهم) أني كنت عندها وعندما سمعت أمي الأذان قامت فتطهرت وتوضأت وصلت ، منتهى النقاء، والله رأيت في وجهها نضارة - ويصف الفتى وقع كلماته على الحاضرين - فيقول: ( لاحظت وجوههم اسودت وكشروا عن أنيابهم عندما سمعوني أتحدث عن أمي بهذه الطريقة وواصلت الحديث قائلاً لهم : والله إن القس لكذاب وأمي ليست في السجن كما يزعم القس، وهاكم العنوان لمن يرغب بزيارتها ... أمي بفضل الله رب العالمين حين سمعتها تقرأ القرآن أمامي كانت تغسلني وتطهرني ، فقاطعني القس قائلاً : اسكت يا ولد وإلا سأطردك خارج الكنيسة )، ولكن الفتى لا يسكت ، ويواصل هجومه على القس المفتري قائلاً له : دعني أسألك أيها القس، هل تتطهر قبل الصلاة كما يتطهر المسلمون ؟! حينئذ جن جنون الحاضرين وتتابعت تهديداتهم وكادوا يفتكون بي فمن قائل: اسكت لقد جاوزت كل حدود الأدب، ومن قائل : أنت تهذي وتخرف. أما القس فقد تغير لونه وارتعشت يداه وظهر على وجهه الاضطراب والهزيمة والفضيحة، فيما يصيح ثالث : هل أجرت لك أمك غسيلاً للمخ ؟ وكانت ردودي كأنها الطلقات النارية في وجه القس والمتعاطفين معه، وانفض الموقف وخرجت من الكنيسة باكيًا أكفكف دمعي المنهمر من عيني المحمرتين لطول البكاء والغضب ، ولم أجد ما يخفف من وقع محنتي إلا التوجه إلا بيت أحد أصدقائي الأعزاء الذين قويت صداقتي معهم مع مر الأيام فلم أجده في البيت ورأفتْ أمه لحالي التي كنت عليها فرقتْ لحالي، وحزنتْ من أجلي وقالت: منها لله أمك ... هي السبب ... فيما أنت عليه من حزن وأسى ... فلينتقم الله منها ! ولم أكد أسمع كلام هذه المرأة حتى رغبت في الهجوم عليها وخنقها هي وكذلك القس الكذاب ورميتها بعيني كأنهما جذوتان تبعثان بالشرر الحارق وانصرفتُ قافلا إلى بيتنا حزينًا كئيبًا تنتابني مشاعر شتى أريد أن أذهب إلى أمي وأعتذر لها عما أصابها من افتراء هذا القس الكذاب وأريد أن أعود إلى القس لأشفي غليلي منه أريد أن أهينه ... أشعر بالضيق ... إن روحي تكاد تزهق ... ولكن غالبتُ نفسي وقلت: لعل هذا الغضب في مواجهة القس وذلك التجرؤ عليه وسوسة من الشيطان فلأرجع إلى الإنجيل لعلي أجد فيه السكينة والهداية والهدوء.
ويعاود الفتى قراءة الإنجيل -ويوقن بفطرته كما يقول- أنه محرف وأن القرآن الكريم هو كتاب الله حقًا ، هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالإنجيل عندما طالعته وجدته كتابًا كأي كتاب يؤلف في سيرة شخص أو عظيم حيث تطالعك أخبار عن المسيح الذي يأكل والمسيح الذي يشرب والمسيح الذي يموت والمسيح الذي يقوم من الذي يتحدث بهذه الأخبار ؟ هل هو الله ؟ أم هو المسيح ؟! .
إن الإنجيل كتاب كأي كتاب يحكي قصة شخص أكل وشرب ونام ، وفعل كذا من المعجزات أو له كذا من المعجزات والخوارق، من المتحدث في كل هذا ؟ أو من الذي كتب هذه الأخبار بعد وفاة المسيح؟ ولماذا تتعدد الروايات وتختلف وتتناقض أحياناً بتعدد الأناجيل واختلافها، حتى والمسيح على الصليب - كما يزعمون - ينادي : ( إيلي إيلي لماذا؟ شبقتني ! ).
أي: إلهي إلهي لماذا تركتني وخذلتني ؟! لماذا ؟ ينادي مَنْ ؟ وهو من ؟ وكيف يتخلى الأب عن ابنه وهو يستصرخه ويستنصره ويستنجد بـه ؟! أهذا منطق؟! أسئلة كثيرة رَسمتْ أمامي علامات استفهام كبيرة، وفي هذا أنشأتُ في خطابي للنصارى والنصارى أقول : ( ياعُبَّادَ المسيح ... لي عندكم سؤال ... لا يجيب عنه إلا من وعاه ... كيف مات الإله بصنع قوم ؟ ... فهل هذا إله ؟ ... وعجبًا لقبر يحوي هذا الإله ... والأعجب منه بطن حواه ... ثم يخرج من بين الفرج فاتحًا للثرى فاه ... فهل هذا إله ؟! )- وهذه القصيدة مقتبسة من أخري لابن القيم رحمه الله تعالي-.
وقد أصاب الفتى الملل من قراءة الإنجيل - كما يحكي- لأن قراءته في الإنجيل ضاعفت من حيرته ولم تجب عن أسئلته، ويمضي الفتى قائلاً: ولكن حرصي على الوصول للحقيقة دفعني لمزيد من المراجعة ومعاودة قراءة الإنجيل مرة أخرى حتى انتهيتُ من قراءته لأصل إلى الاطمئنان النفسي والعقلي والروحي فما وجدت إلا المزيد من الإبهام والغموض، فاشتدت حيرتي حتى طالعت في الإنجيل قول السيد المسيح:
( الحق الحق أقول لكم: إن من يتبع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية )
الله أكبر. الله أكبر إذاً جاءت صريحة وعلى لسان المسيح عبارته تلك التي تؤكد أنه رسول من عند الله ، فقوله: ( الحق . الحق ) قسم وقوله : (إن من يتبع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني) تأكيد على أنه رسول من عند الله وقوله: (فله حياة أبدية) أي له الجنة والحياة الخالدة في الجنة.
وتكثر تساؤلات الفتى ، فيذهب إلى القس في الكنيسة، ويعرض عليه تساؤلاته واستنتاجاته، ويحار القس ولا يرد عليه جوابًا ، فينصرف الفتى عنه وبعد عدة أيام يرسل إلى الفتى بهدية غالية القيمة ( من حيث قيمتها المادية ) وكانت صليبًا من الذهب الخالص يثبت في سلسلة تعلق في العنق .. يقول الفتى: (ولاحظت أنه قد غير من معاملته معي فصار يعاملني برقة ولطف ويشملني بنظرات عطفه وإشفاقه وقربني إليه، وذات مرة فاجأني بقوله - في لغة حانية - : (أنا آسف إذ ذكرت أمك بما ذكرتها على تلك الصورة التي ضايقتك، فأنت ابن المسيح، ونحن نحبك، والمسيح يحبك...) ولم أكن أدري أنه يدبر لي بليل ويحفر لي حفرة عميقة ، وقال لي في لهجة ودودة : أتمنى لو أرسلت والدك وأرجو أن يأتي في صحبته عمك ويواصل الفتى قائلا: ( وكانت لأبي وعمي مكانة عالية عند القس في الكنيسة حيث كان يستعين بهما في حل مشاكل عائلتنا). ومضى القس يقول للفتى: "أريد أن تبلغ أباك وعمك أني أريدك في أمر سيسعدك كثيرا وسيريحك للغاية ، ولا تنس أباك الروحي فلانـًا الذي يحبك كثيرا وأنا أحبك وأعتز بك كثيرًا وأرجو أن تقبل أسفي لأني ذكرت أمك بالسوء وسببت لك كل هذا الإزعاج وكل تلك المضايقة، ويصدق الفتى -بطيبة وبراءة - مقولة القس ولم يكن يدري - كما يحكي- بأنه كان يدبر له مكيدة وأنه يريد والده وعمه من أجل هذا !
ويعود الفتى إلى والده ويخبره أن الأب فلانا (القس) يريده ومعه عمه بعد قدّاس يوم الجمعة القادم، فأجابه الوالد موافقًا، وفي اليوم المذكور اصطحب الرجلان الوالد والعم الفتى قاصدين الكنيسة والتقيا بالقس في الموعد المحدد، وهناك استقبلهما القس. يقول الفتى: ( ولما هممت بالدخول في صحبتهما، استوقفني القس وسألني أن أنتظر خارج الغرفة، لأن الحديث مع الوالد والعم في شأن خاص بك وسيسعدك كثيرًا ويحمل لك مفاجأة سارة ).
هكذا خاطب القس الفتى كما حكى - ومكثوا في اجتماعهم قرابة الساعة بعدها خرج الوالد والعم ناكسي الرؤوس - وسألتهما: ماذا حدث ؟ فيجيب الوالد: لاشيء … كل ما هناك أن الأنبا (فلانا) أرسل في طلبك لتمكث معه وفي صحبتك أختك يومين أو ثلاثة ، فقلت: خيرًا ولم أعقب، واستبشرت بتلك الزيارة ؛ لما لذلك الأنبا من مكانة عالية في النفوس ( عند النصارى ) ولما له من كرامات - كما يزعمون في النصرانية - الأمر الذي يتمناه كل نصراني وأخبرني الوالد أن الأنبا يريد أن يقدم لك هدية قيمة ويريد أن يسلمها لك بنفسه ، وأن تمكث معه وأختك يومين أو ثلاثة داخل الدير في مكان سيعجبك جدًا وستستريح فيه كثيرًا ، فأجبته من فوري بالموافقة السعيدة وسألني أن أتأهب للسفر يوم الاثنين التالي للقاء، فصرت متلهفًا للسفر تواقًا لذاك اللقاء ؛ لما كنت أسمع من معجزات ذلك الأنبا وكراماته - كما يزعمون - وكنت أريد أن أرى بعيني ما يزيد يقيني في هذا الرجل ( فما راءٍ كمن سمعا ).
وفي يوم الاثنين الموعود يلاحظ الفتى أن والده يساعده في إعداد حقيبة السفر ويضع فيها كل الملابس ويعجب من أمر أبيه كيف يضع كل تلك الملابس ! ولما سأل والده أجاب عنه بقوله: بعد حين ستعرف كل شئ وصمتَ الفتى ولم يلق بالاً ، وانطلقا إلى المطرانية في القاهرة ، ويراقب الفتى الموقف عن كثب، فهاهو الوالد منهمك في إنهاء بعض الإجراءات ولم يشأ الابن أن يسأل الوالد عن أي شئ مما يرى ... ومن القاهرة انتقل الركب إلى بني سويف حيث ( بيت الشمامسة ) وهناك تسلمني قس - والكلام للفتى - وتركني والدي وأوصاني بأختي الصغيرة خيرًا وانصرف.
وفي بيت الشمامسة - حيث المقر الجديد للفتى - لم تلبث المعاملة أن تغيرت وتتابعت الأوامر الصارمة والتعليمات المشددة أين ملابسك ؟ اجلس أقبل … هذا سريرك الذي ستنام عليه وهذا مكان حفظ ملابسك، ويسأل الفتى عن أخته فيجيبه المسؤول قائلاً: لا دخل لك بها ... ستكون في مكان وهي في مكان آخر.
كان الموقف صعبًا على الفتى ... فالمكان غير مريح - كما يقول-: إن نظرة واحدة لنظام غرفة النوم تذكرك بعنبر السجن حيث الأسرة ذات الطابقين وكثرة عدد المقيمين في البيت ... ومرت الثلاثة أيام والسبعة والعشرة أيام، والفتى يتساءل في حيرة متى سفري إلى أهلي ؟ ومتى أعود لمدينتي ؟ وسرعان ما تأتيه الإجابة: انسَ كل شئ ولا تفكر في مدينتك ولا أهلك ولا في العودة إلى بيتك ... أنت هنا لن تغادر ... نحن نحبك ! ألست تحبنا كما نحبك ؟! وهل نقصر في خدمتك أو في حقك ؟! الطعام يقدم لك في مواعيد والنوم في مواعيد والدروس في مواعيد وحياتك منظمة ، ونحن نحبك ونريدك ، فشعرت بالأسى والحزن يعتصرني وكأني في سجن لا إرادة لي فيه ولا حرية ولا اختيار ، وجعلوا يعدونني إعدادًا لأصبح شماسًا ... الدروس المتتابعة والتلقين المستمر ولم يكن لي من همٍّ إلا أن أحفظ تعاليم النصرانية ودروس اللاهوت، وأن أردد كل ما يلقى إلي كالببغاء إلى أن بلغت الفترة التي أهلتني لأصبح شماسًا وقد تُوجْتُ في تلك الفترة برشم الصليب في شعر رأسي بقص مقدمته على هيئة الصليب، وقام بذلك الأنبا وأجازني شماسًا ... وصرتُ منذ تلك اللحظة حائزًا على درجة شماس داخل الهيكل ولم تزل الحياة هنالك تبعث على الملل والسأم ... كنا مجموعة كبيرة من الفتيان في الحجرة نحيا حياة لا جدة فيها ولا طرافة وإنما حياة رتيبة ... دروس مملة تفرض علينا فرضًا وتعاليم المسيحية تصب في رؤوسنا على غير شرح أو إقناع ، وليس أمامنا إلا أن نستظهر تلك الدروس وإلا فالعقاب الأليم ينتظرنا فضلاً عن صحبة غير طيبة من الشباب المستهتر وحياة لم آلفها ولم أعتدها، الأمر الذي يناقض تكويني ونفسي وتربيتي مما دعاني للكتابة إلى أبي أستعطفه وأرجوه أن يأتي ليخرجنا من هذا المكان وأقول له في خطابي: يا والدي، إني أحبك ... حرام عليك ! أهكذا تتركنا وتخدعنا وتلقي بنا في هذا المصير ... وأيًا كانت الأحوال فأنا ابنك وأحبك . ويتابع الابن إرسال خطاباته إلى أبيه مستغيثًا مستعطفًا إياه ولكن دون جدوى !
وتزداد معاناة الفتى فيفاجأ بعد معاناته السابقة طيلة ستة أشهر بتقرير من مطرانية بني سويف بترحيله إلى بني مزار في محافظة المنيا إلى مكان يعرف ببيت النعمة وشهرته عند المسلمين ( مدرسة الأقباط الإعدادية المشتركة ) كما يقول صاحبنا.
ويواصل حديثه عن بيت النعمة فيقول: وهناك في (بيت النعمة) الذي كان في الحقيقة (بيت النقمة) شربت المر ألوانا وعشت الصبر أشجانًا، وصرت أذكر أيام المعاناة في بني سويف بكل خير ، فقد كانت أيامي فيها نعيمًا قياسًا على أيامي التي قضيتها في (بيت النعمة) ... والله الذي لا إله غيره كلما ذكرت أيامي في بني مزار في (بيت النعمة) شعرت بآثار السياط تلهب ظهري وترهق كاهلي ! لشدة ما كانت عليه العجوز الحيزبون من قسوة في معاملتنا . إذ حرمها الله من كل مسحة جمال ونعتّها بكل ما هو قاسٍ وقبيح ... إنها مخيفة مرعبة ، فهي تتعامل مع الشباب بالسياط الحامية، لقد كانت تطاردنا في أرجاء البيت بعصاها الغليظة حتى كان شباب هذا البيت يختبئون تحت الأسرة وخلف الأبواب خوفًا من عقابها ولم يكن غريبًا أن تراقبنا ساعة تناول الطعام وتلاحقنا بأوامرها ولم يكن غريبًا أن تأمر الفرد منا أن ينهض ويترك الطعام دون أن يشبع إذلالاً له وإهانة لكرامته ، أما أختي فقد قصوا لها شعرها وأخبروها أنها ستتزوج قسًا رغما عنها عندما تبلغ الخامسة عشرة ، وأتساءل في حيرة وضجر إلى متى سأظل على هذا العذاب ؟ فتكون الإجابة: إلى أن تموت ! … لن ترى والدك ولا أحد أفراد أسرتك ولا أحبابك إلا أن تموت !
ومضت الشهور - كما يقول الفتى- شهرًا تلو شهر ، وعاودت الكتابة إلى أبي مستجيرًا به أستعطفه لينقذني من هذا الكرب الذي كنت أعيش فيه ولكن دون جدوى مما جعلني أكتب إليه ذات مرة داعيًا عليه ، وقلت في رسالتي إليه ذات مرة فلينتقم الله منك ! وأصابني المرض والهزال، وبلغ التعب والأرق بي مبلغه وغايته، وكان الوقت يمر ثقيلاً في صحبة فتية مما ساءت أحوالهم واستحقوا التأديب والعقاب من الكنيسة ، فمنهم من أسلم أبوه ومنهم من أسلمت أمه ومنهم من هو مطلوب لثأر في الصعيد ويتوافد الزوار على هذا البيت الذي نسكن فيه ، ويشاهدون ما نحن عليه من شقاء وعنت، وكأننا مخلوقات عجيبة في حديقة الحيوان، يتسلى الناس بمشاهدتها، ومرت ستة شهور، وأنا في هذا العذاب، وعاودت الكتابة إلى أبي أتوسل إليه أن يأتي ليشاهدني ولو مرة واحدة، ولم يكن من الممكن أن نفر من هذا البيت ولا سبيل للنجاة من هذا العذاب؛ لأن حراسته كانت شديدة ، ولم يكن من الممكن أن ينجح أحد في اقتحام الصعوبات المفروضة للحراسة حتى لو نجح أحد في اختراق الحراسة فإن محاولة غير مأمونة العواقب ويمكن الإمساك به وإعادته مرة أخرى، ليلقى مزيدًا من العذاب ولكن إلحاحي في الكتابة إلى والدي دفعه لزيارتنا وما أن جاء لزيارتنا ورأى الصورة التي كنت عليها من الهزال والضعف وسوء حالي ، حتى احتضنني باكيًا الأمر الذي شجعني على الارتماء في حضنيه وتقبيل يديه وقدميه والاستغاثة به ، لينقذني من المعاناة التي كنت فيها، حتى إن أختي كانت معي في نفس البيت في الطابق الأعلى ولم أتمكن من رؤيتها طوال مدة وجودي فيه ، مما رقق قلب أبي فذهب إلى رئيس البيت، وقال له: لو سمحت ، أريد أن أعود بالولدين: عماد وأخته - إن شاء الله - وحسبهما هذه المدة التي مكثوها عندكم ، فرد المسؤول: لا إن شاء الله لن تأخذهم أبدًا أبدًا أبدًا، فقال له أبي: ما معنى هذا ؟ فأجاب رئيس البيت: لو أخذت الولدين معك إلى مدينتكم سوف يتعلقون بأمهم، وسيسبب هذا لك وللكنيسة إزعاجًا لا داعي له، فأجابه الوالد بنبرة قاطعة : أريد أولادي وإليكم الأوراق المتعلقة بذلك، وأصر والدي على موقفه ، فرد المسؤول في نبرة تحدٍ: لا. لن نسلمك أولادك ( واخبط راسك في الجدار ) واصنع ما بدا لك، فرد الوالد قائلاً: إذاً سأخرج من هنا إلى المحافظ وأشكو إليه أمركم وأفضح أمركم على الملأ، فلما وجد المسؤول ذلك الإصرار من والد الفتى رد عليه في غلظة وسلم الفتى وأخته مضطرًا ، يقول الفتى: وفيما نحن في الطريق إلى مدينتنا، سألت والدي عن حال أمي، فقال لي: يا بني. إن أمك قد ماتت إثر حادث صدام بالسيارة ، وصدمها خالك وقضت نحبها، ويسقط في يد الفتى ويصدم صدمة نفسية عميقة يعاف معها الحياة، إذا ضاق بالحياة ذرعًا بعد فراقها ويقول لأبيه في تساؤل حزين: إذن لماذا نذهب إلى مدينتنا، عد بنا من حيث أتينا ، فما قيمة العودة دون أمل في لقاء أمي والأنس بها ؟! وواصلنا المسير حتى بلغنا مدينتنا.
وتمضي الأيام ويعود الفتى وأخته إلى بيت الوالد، ويستأنف الفتى عمله في متجر العائلة مع أبيه، وبعد مضي أربعين يومًا، وبينما كان الفتى في متجر أبيه إذا بصوت سيدة تنادي من جانب قريب: يا عماد يا عماد ويدرك الفتى على الفور بأنه صوت أمه ، فيسرع نحوها ويرتمي في أحضانها، ويوقن وقتها بأن أبيه قد أخفى الحقيقة عنه حتى لا يفكر فيها، ولا يعاود الاتصال بها، وتعطيه الأم الحنون عنوانها، ويعود الأمل من جديد، يقول الفتى: وصرتُ أسير حثيثًا نحو النور ، وبعد أيام قليلة قمت بزيارتها فرحبت بي وغمرتني بعطفها وحبها وحنانها ورأيت النضارة تعود إلى وجهها من جديد، بعد أن عانت أشد المعاناة في بعدنا عنها، ولما عدت إلى بيت والدي استدعاني أبي وفاتحني في موضوع زواجه من جديد أملاً ألا يسبب هذا الموضوع أي إزعاج لي فوافقته من فوري، ولم أعارضه، وقلت له : إنها حياتك، وأنت ولك التصرف وسعى أبي لاستخراج التصريح اللازم لهذا الزواج حسب ما يقضي به المذهب الأرثوذكسي ، فذهب إلى مطرانية القاهرة لهذا الغرض وهناك رأى عجبًا فمن قائل له: لا بد أن تدفع 200 جنيه وآخر يطلب 150 جنيه لعمل تصريح الزواج وثالث يطلب 70 جنيها لاستخراج التصريح، ولما حصل الأب على التصريح له بالزواج تعهدته امرأة العم - وكانت امرأة متعصبة للنصرانية تعصبًا أعمى تكره الإسلام والمسلمين كراهية شديدة - فاختارت له زوجة نصرانية متعصبة للنصرانية أيضًا، ودخل بها - وكان فارق السن بينها وبين أبي كبيرًا- وصارت معاملتها لنا تسوء يومًا بعد يومٍ، حتى إنها شكتني إلى أبي ذات يوم قائلة له - زورًا وبهتانًا-: هل تتخيل أن ابنك يرفع يده عليّ ؟ فغضب أبي أشد الغضب واشتعلت ثورته فانهال عليّ ضربًا لا رحمة فيه؛ من أجل إرضاء زوجته الصغيرة المدللة مما دفعني للعودة إلى أمي ؛ لاستعير منها بعض الكتب التي تساعدني على التعرف على الإسلام، ونصحتني أمي أن أقرأ بعمقٍ وقالت لي: يا بني، إنك ملم بتعاليم النصرانية، فأنت شماس داخل الهيكل أرجو أن تقرأ القرآن الكريم بعمق وتعاود قراءة الإنجيل وتطالع كتب السيرة ثم تقارن بينها .... ولكنها حذرتني أن يطلع أبي على هذا الأمر .. أو تلك الكتب ؛ وإلا فسيكون مصيري هو الموت ! فلما علم أبي بترددي على أمي وزيارتها استدعاني ذات مرة وجرى بيني وبينه الحوار التالي قائلاً لي: ما الخبر ؟ هل عاودت زيارة أمك ؟ فأجبته: نعم عاودت زيارتها ؛ لأنتقم منها لأنها خانت المسيح .... فقال لي: كيف ذلك ؟ فقلت له: اصبر وسترى - إن الله مع الصابرين - سوف أنتقم منها انتقامًا شديدًا .... ولما تحدثت مع عمي في هذا الأمر وقلت له ما قلت لأبي أعجب بي كثيرًا ورأيته متهللاً وقال لي: أحسنت ومضى يقول: لقد أخبرني القس في الكنيسة بأنه يتوقع لك مستقبلاً باهرًا . وأنك ستصبح مع الترقي قسيسًا في الكنيسة بعد عدة سنوات ، وانتقم يا بني من أمك بالطريقة التي تحلو لك ، فسررت كثيرًا لقناعة أبي وعمي بما قلت لهم تبريرًا لزيارة أمي وكان ذلك تمويهًا وبعثًا للأمان في نفسي ؛ حتى أجد الأمان في البحث عن الحقيقة ومعرفة حقيقة الإسلام وبعد معاناة في البحث والاطلاع والمقارنة بين مصادر الإسلام والنصرانية غمرني نور الإسلام وذقت مع مطالعة مصادره حلاوة وطمأنينة، لم أكن أجدها قبل الإسلام. فعدت إلى أمي وفاتحتها في أمر اعتناق الإسلام.
وقد ساعد الفتى في الوصول إلى القناعة التامة بقبول الإسلام دينًا وجود مسجد قريب من منزل أمه الصالحة فكان بتشجيع من والدته يمارس فيه الشعائر الدينية من إقامة الصلاة وقراءة القرآن ومتابعة الأذان . يقول الفتى: (وصدق الله العظيم إذ يقول (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) وكنت أقضي نهاري عن والدتي وأعود للمبيت في بيت أبي) ولما وصل الفتى إلى هذه الدرجة العالية من اليقين بالحق في دين الإسلام وفي شريعته الغراء .. قال: ( فاتحت أمي في رغبتي في اعتناق الإسلام وترك النصرانية، فوافقتني وهي فرحة، فأعلنت إسلامي على يد أمي أولا قبل الشروع في اتخاذ الإجراءات الرسمية في إشهار إسلامي، وسمحت لي بأن أتردد على المسجد، لأداء الصلاة، وقد عرف إمام المسجد بقصتي فكان يساعدني في فهم قواعد الإسلام وفقه العبادات ولا سيما فقه الصلاة ، وكان وشم الصليب لا يزال واضحا وجليا في معظم اليد مما كان يسبب لي حرجًا وعنتًا شديدين لمن لا يعرف قصتي.
ومن المواقف التي تعرض لها عماد للحرج الشديد خلال تردده على المسجد المذكور في حالته التي كان عليها - كما يحكي- فيقول: هممت بالوضوء من مياه المسجد ذات مرة وكشفت عن ذراعي وفيما أرفعهما أثناء الوضوء إذا جاري المسلم -أثناء الوضوء- يلمح وشم الصليب في يدي. فقال لي: ماذا تصنع ؟ فأجبته ملمحًا: نسأل الله الهداية. فسكت ولم يغضب، وترك مكان الوضوء بجانبي ونأى عني واستكمل وضوءه، وفي موقف آخر تعرضت لإحراج شديد، حيث أقيمتْ الصلاة وكبر الإمام تكبيرة الإحرام كنت خلف الإمام في الصف الأول وبينما أرفع يدي مع تكبيرة الإحرام إذا بأحد المصلين من العامة يلمح وشم الصليب في يدي فيلتفت نحوي في غضب ويجذبني من ملابسي في قسوة يجرجرني بعيدًا عن صفوف المصلين ويصب عليّ جام غضبه ، وتنصبُّ عليَّ شتائمه وتهديداته ويقول لي: (يادسيسة) جئت تتجسس على المسلمين، وقال ألفاظًا أخرى لا أذكرها مما أحزنني كثيرًا ، ولولا يقيني في الإسلام وقد شرح الله صدري إليه لفتنت في ديني ، وكان شيخ المسجد يعرف قصتي فلما فرغ من الصلاة عنف الرجل وإن كان الرجل الجاهل قد اعتذر إلي بعد أن أشهرت إسلامي وقال لي: (أنت الآن من أهل الجنة) وكان هدفي من ترددي على المسجد أن أتزود من فقه الإسلام ولأزداد يقينًا على يد الشيخ: حسين أحمد عامر حتى أتمكن من مواجهة شدائد ما بعد إشهار إسلامي رسميًا ، وصارحت والدتي برغبتي في إعلان إسلامي رسميًا فقالت: أختك من قبلك؛ لأنها ستضيع ... وقد تلاقي عندهم ما تلاقيه من شقاء وعنت إذا أسلمت وتركتها عندهم ، مما أشعرني بالخوف على أختي ودفعني لمساعدتها على معرفة الإسلام وفهمه عسى الله أن يشرح صدرها إليه وإن يهديها إلى الدين الحق دين الإسلام ملة إبراهيم ودين رسل الله وجميع أنبيائه.
وذات يوم تعود الفتاة من الكنيسة وهي تحمل صورة لميلاد المسيح (حسب زعمهم) ، وكان عمرها حينذاك لا يجاوز الاثني عشر ربيعًا فيسألها الفتى الأخ: ماذا تحملين ؟ فأجابت هذه صورة للمسيح في مذود البقر، ويعاود الفتى سؤال أخته:وما هذا الذي حول الصورة ؟ ومن هذا الذي في الصورة ؟ فقالت: ربنا ! ، ويدهش الفتى ، ويواصل السؤال: ومن هذا الذي حوله ؟ فقالت: بقر وحمار وحيوانات أخرى. ويسأل سؤالاً أخر: وأين ولد الرب ؟ فأجابت: في مذود البقر، فقال: وما معنى مذود البقر ؟ فقالت: حظيرة حيوانات، فيرد الفتى: وهل يليق بالرب والإله أن يولد في حظيرة البهائم ؟ فقالت: لا. هذا تواضع منه كما علمتني المعلمة في الكنيسة، فيعلق الفتى: هل التواضع من إله - ولله المثل الأعلى- أن يولد في بيت متواضع أم في حظيرة حيوانات قذرة ؟ فإذا الأخت تقول: أنا أيضًا غير مقتنعة بهذا المنطق النصراني وراغبة في الإسلام، وما لبثت الفتاة أن أعلنت إسلامها على يد أخيها ونطقت بالشهادتين ( أشهد لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله) أمامه ثم اتجها إلى الجهات المسؤولة ليعلنا إسلامهما معًا وهناك وجدا أشد المعاناة وتعرضا لاختبارات كثيرة وبلاء شديد حتى سمح لهما باعتناق الإسلام - كماي قول- : ( مناقشات طويلة وضغوط من النصارى وتهديدات وأسئلة في فقه الإسلام وعقيدته ، وتمكنا بفضل الله وتوفيقه أن نجتاز الاختبارات بنجاح) ، وإن كانت المناقشة قد طالت وأرهقته؛ لأنها كانت شاقة وحادة وطويلة، وقد امتدت فترة المعاناة العقلية والنفسية في رحلة فتانا من الشك إلى اليقين خمس سنوات كانت أصعب سنين عمره وقد صارت حياته بعد إسلامه تفيض بمحبة الإسلام .
يقول الفتى: (ذات يوم وبعد إسلامي ، تقابلت أنا وأحد القساوسة، وكان معه شابان فقال لي القس في سخرية: بعت دينك يا عماد مثل فلان، ويقصد بفلان هذا الرجل الذي باع دمه من أجل الحصول على لقمة العيش فرددت عليه قائلاً: هل تعلم أن البابا تزوج ؟ فقال على الفور: البابا لا يتزوج، فقلت: سبحان الله البابا لا يتزوج والإله يتزوج، عجبًا لك تحرم هذا الأمر على البابا وترضاه للإله)
ويمضي الفتى قائلاً: (تحدثت مع أحد أفراد الكنيسة قلت له: لماذا قدم المسيح نفسه قرباناً لمغفرة خطيئة آدم ولم يقدم آدم نفسه بدلاً عنها ؟! ولماذا كان عيسى عليه السلام مسؤولا دون غيره عن خطيئة آدم ، ومطالبًا بالتكفير عنها، وأين المسؤولية الفردية ؟ أليس ضياعها في المجتمع دليلاً على أنه يحكم بشريعة الغاب ؟ ثم أليس من الأعدل أن يحي الله آدم ويأمره بتقديم نفسه قرباناً ؟ ولماذا يقدم عيسى نفسه قربانًا بلا سبب وجيه ؟ ثم من الذي أحيا المسيح بعد موته ؟ هل أحيا نفسه ؟ أم أحياه غيره ؟ وإن كان هذا عن طيب خاطر فمن ذا الذي كان يصيح ويستغيث على الصليب ويقول: (إيلي إيلي لماذا شبقتني) أي: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ سمع محاوري هذا وبعدها فرَّ هاربًا ولم يعقِّبْ).
ويحكي الفتى قائلاً : ( تحدثت مع أحد رجال الدين النصراني. قلت له: أين أولادك حتى أسلم عليهم ( وهذا دون قصد مني ) فقال: أنا ليس عندي أطفال ولم أنجب، وبنظرة سريعة إلى عينيه المملوءتين بالدموع، استطرد فبدأ حديثه معي قائلاً : الفرد منا يريد أن ينجب طفلاً ليحمل اسمه ويكمل رسالته بعد موته ... نظرت في وجهه وقلت: سبحان الله هل الله في حاجة إلى من يحمل اسمه أو يكمل رسالته وقرأت عليه قول الله تعالى: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا (*) لقد جئتم شيئًا إدّا (*) تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًا (*) أن دعوا للرحمن ولدًا (*) وما ينبغي للرحمن إن يتخذ ولدًا (*) إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا (*) لقد أحصاهم وعدهم عدًا (*) وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا ).
نقلا عن كتاب: قصة الفتى النصراني الذي اهتدى .. (بتصرف يسير)
0 commentaires:
إرسال تعليق