أدلة النصارى النصية على ألوهية المسيح ونقضها


 أدلة النصارى النصية على ألوهية المسيح ونقضها

تؤمن الفرق النصرانية- رغم اختلافها في طبيعة المسيح - تؤمن بأن المسيح إله متجسد، وتؤيد دعواها بعشرات النصوص التي وردت في العهد الجديد أو القديم، وتتحدث عن إلهيته، منها النصوص التي سمته رباً وإلهاً أو ابناً لله، ومنها النصوص التي أفادت أن فيه حلولاً إلهياً، ومنها النصوص التي أضافت خلق المخلوقات إليه ثم ما ظهر على يديه من معجزات إلهية كتنبئه بالغيب وإحيائه الموتى…

- ملاحظات عامة :

وتفحص المحققون أدلة النصارى وسجلوا ملاحظات هامة في هذا الباب:-

- أنه لا يوجد نص واحد في الكتاب المقدس يصرح فيه المسيح بألوهيته أو يطلب من الناس عبادته، وفي هذا الصدد يتحدى ديدات كبير قساوسة السويد قائلاً: "أضع رأسي تحت مقصلة لو أطلعتموني على نص واحد قال فيه عيسى عن نفسه: أنا إله. أو قال: اعبدوني".

القس فندر فيقول في كتابه"مفتاح الأسرار" مبرراً عدم تصريح المسيح بألوهيته في العهد الجديد:"ما كان أحد يقدر على فهم هذه العلاقة والوحدانية قبل قيامه وعروجه…فلو قال صراحة لفهموا أنه إله بحسب الجسم الإنساني…إن كبار ملة اليهود أرادوا أن يأخذوه ويرجموه، والحال أنه ما كان بين ألوهيته بين أيديهم إلا عن طريق الألغاز".

والخوف من اليهود لا يقبل نسبته للإله أو حتى للمسيح الذي رأيناه يواجه اليهود مرراً فيقول:
"الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون…أيها العميان…لأنكم تشبهون القبور المكلسة، أيها الحيات والأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم" (متى 23/13-34)، فكيف له بعد ذلك أن يغمض على البشرية في إظهار حقيقته، ففي ذلك إضلال وتلبيس.

- ثم إن أقوى ما يتعلق به النصارى من الدليل لا يوجد إلا في إنجيل يوحنا ورسائل بولس، بينما تخلو الأناجيل الثلاثة من دليل واضح ينهض في إثبات ألوهية المسيح.

بل إن خلو هذه الأناجيل عن الدليل هو الذي دفع يوحنا – أو كاتب يوحنا - لكتابة إنجيل عن لاهوت المسيح، فكتب ما لم يكتبه الآخرون، وجاءت كتابته مشبعة بالغموض والفلسفة الغريبة عن بيئة المسيح البسيطة التي صحبه بها العوام من أتباعه.

- إن عدم الدليل الصحيح جعل النصارى يحرفون في طبعات الأناجيل، ومن ذلك إضافتهم نص التثليث الصريح الوحيد في
(يوحنا (1) 5/7) ومثله في قول بولس "الله ظهر في الجسد" (تيموثاوس(1)3/16) فالفقرة كما قال المحقق كريسباخ: محرفة، إذ ليس في الأصل كلمة "الله" بل ضمير الغائب "هو"، ومن الممكن أن يعود على الله أو على غيره.

و مثله جاء في التراجم القديمة
"عظيم هو سر التقوى الذي ظهر في الجسد " فأحالته الترجمات الحديثة إلى دليل على الحلول فقالوا: "عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد" (تيموثاوس(1)3/16).

1- نصوص نسبت إلى المسيح الألوهية والربوبية :

ويستمسك النصارى بالألفاظ التي أطلقت على المسيح لفظ الألوهية والربوبية، ويرونها دالة على ألوهية المسيح، وفي أولها أنه سمي يسوع، وهي كلمة عبرانية معناها: يهوه خلاص.

ومن ذلك ما اعتبروه نبوءة عنه في إشعيا
" لأنه يولد لنا ولد، ونعطى ابناً، وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام، لنمو رياسته وللسلام، لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته، ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد." (إشعيا9/6).

كذا في قول داود: "قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك. يرسل الرب قضيب عزك من صهيون. تسلط في وسط أعدائك. شعبك منتدب في يوم قوتك في زينة مقدسة من رحم الفجر لك طل حداثتك، أقسم الرب ولن يندم. أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق". (المزمور 110/ 1-4)، فسماه داود رباً.

كما يرى النصارى نبوءة أخرى دالة على ألوهية المسيح في قول إشعيا
"لكن يعطيكم السيد نفسه آية.ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل" (إشعيا 7/14).

ويرون تحققه بالمسيح كما بشر الملاك يوسف النجار خطيب مريم
"فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع، لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم. وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً، ويدعون اسمه عمانوئيل، الذي تفسيره الله معنا" (متى 1/18-23)، فتسميته الله معنا دليل عند النصارى على ألوهيته.

ومثله جاء في النص الجديد قول بولس :
"المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد" (رومية9/5) ومثله قول توما للمسيح: "ربي وإلهي " (يوحنا 20/28)، كما قال بطرس له: "حاشاك يا رب" (متى 16/22)، وقال أيضاً: "هذا هو رب الكل" (أعمال 10/36)، وجاء في سفر الرؤيا عن المسيح: " وله على ثوبه وعلى فخذه اسم مكتوب : ملك الملوك ورب الأرباب" (الرؤيا 17/14) وغير ذلك من النصوص مما أطلق على المسيح كلمة رب أو إله، فدل ذلك عندهم على ألوهيته وربوبيته.

الأسماء لا تفيد ألوهية أصحابها

لكن هذه الإطلاقات ما كان لها أن تجعل من المسيح رباً وإلهاً، إذ كثير منها ورد في باب التسمية، وتسمية المخلوق إلهاً لا تجعله كذلك.
فقد سمي بولس وبرنابا آلهة لما أتيا ببعض المعجزات " فالجموع لما رأوا ما فعله بولس رفعوا أصواتهم قائلين: إن الآلهة تشبهوا بالناس ونزلوا إلينا." (أعمال 14/11)، فقد كان من عادة الرومان تسمية من يفعل شيئاً فيه نفع للشعب :إلهاً، ولا تغير التسمية في الحقيقة شيئاً , ولا تجعل من المخلوق إلهاً، ولا من العبد الفاني رباً وإلهاً.

وقد سمي إسماعيل باسمه العبراني معناه: "الله يسمع"، ومثله يهوياقيم أي: "الله يرفع"، ويهوشع "الرب خلص"، وغيرهم … ولم تقتض أسماؤهم ألوهيتَهم.

وجاء في سفر الرؤيا:
"من يغلب فسأجعله في هيكل إلهي، ولا يعود يخرج إلى خارج، وأكتب عليه اسم إلهي واسم مدينة إلهي- أورشليم الجديدة -النازلة من السماء من عند إلهي واسمي الجديد" (الرؤيا 3/12)، وجاء في التوراة: "فيجعلون اسمي على بني إسرائيل" (العدد 6/27) ومع ذلك فليسوا آلهة.

فكما أطلق إرمياء على المسيح
"الرب برنا" (إرمياء23/6) أطلقه أيضاً على أورشليم في (إرمياء 33/14-16)، وسماها حزقيال: "يهوشمة" (حزقيال 48/35)، وهي كلمة عبرانية معناها:"الرب برنا"، وترجمها قاموس الكتاب المقدس:"الرب هناك". ( قاموس الكتاب المقدس، لمجموعة من العلماء اللاهوتيين، ص1097)

هل سمي المسيح الرب والإله ؟

لا يسلم المسلمون بصحة صدور كثير من تلك العبارات الصريحة التي يزعم العهد الجديد أنها صدرت من التلاميذ، فقد كانت محلاً للتحريف المقصود كما وقع في
( يوحنا (1) 5/7-8 ) ، كما قد يقع التحريف بسبب سوء الترجمة وعدم دقتها، فكلمة "الرب" التي ترد كثيراً في التراجم العربية كلقب للمسيح هي في التراجم الأجنبية بمعنى: "السيد" أو "المعلم"، فالمقابل لها في الترجمة الإنجليزية هو: lord، ومعناها: السيد، وفي الفرنسية : "le mait "، ومعناها: المعلم، وهكذا في سائر التراجم كالألمانية والإيطالية والأسبانية.

وما أتت به الترجمة العربية ليس بجديد، بل هو متفق مع طبيعة اللغة التي نطق بها المسيح ومعاصروه فكلمة: "رب" عندهم تطلق على المعلم، وتفيد نوعاً من الاحترام والتقدير كما قالت المرأة السامرية للمسيح:
"يا رب أرى أنك نبي" (يوحنا 4/19)، فليس المقصود من كلامها وصف المسيح بالربوبية.

وفي إنجيل يوحنا أن المسيح كان يخاطبه تلاميذه: يا رب، ومقصودهم: يا معلم، فها هي مريم المجدلية تلتفت إليه وتقول:
"ربوني الذي تفسيره: يا معلم…وأخبرت التلاميذ أنها رأت الرب" (يوحنا 20/16-17).

وخاطبه اثنان من تلاميذه:
"رب الذي تفسيره: يا معلم" (يوحنا 1/38).
ولم يخطر ببال أحد من التلاميذ المعنى الاصطلاحي لكلمة الرب حين أطلقوها على المسيح، فقد كانوا يريدون : المعلم والسيد، ولذلك شبهوه بيوحنا المعمدان حين قالوا له:
" يا رب علمنا أن نصلي كما علم يوحنا تلاميذه". (لوقا 11/1).
وأما قول توما للمسيح "ربي وإلهي" فهو لم يقع منه في مقام الخطاب للمسيح، بل لما رأى المسيح حياً، وقد كان يظنه ميتاً استغرب ذلك، فقال متعجباً:
"ربي وإلهي" (يوحنا 20/28)، ومما يؤكد صحة هذا الفهم أن المسيح أخبر في نفس السياق بأنه سيصعد إلى إلهه (انظر يوحنا 20/17)، وعليه فالألوهية هنا لو أريد بها المسيح فهي مجازية غير حقيقية.

ولو فهم المسيح أنه أراد ألوهيته لما سكت المسيح عليه السلام، فقد رفض عليه السلام حتى أن يدعى صالحاً، إذ لما ناداه بعض تلاميذه:
" أيها المعلم الصالح... فقال له: لماذا تدعوني صالحاً؟ ليس أحد صالحاً إلا واحد، وهو الله " (متى 19/17) فكيف يقبل أن يدعى رباً وإلهاً على الحقيقة؟
واستعمال لفظة الرب بمعنى : السيد، شائع في اللغة اليونانية، يقول ستيفن نيل: "إن الكلمة اليونانية الأصلية التي معناها: "رب" يمكن استعمالها كصيغة للتأدب في المخاطبة، فسجان فلبي يخاطب بولس وسيلة بكلمة: "سيدي" أو "رب"، يقول سفر الأعمال: " أخرجهما وقال: يا سيدي ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص. فقالا: آمن بالرب يسوع المسيح، فتخلص أنت وأهل بيتك" (أعمال 16/30)… وكانت اللفظة لقباً من ألقاب الكرامة… ".

وبخصوص الاستدلال بالمزمور
" قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك". (المزمور 110/ 1)، فهو لا يراد به المسيح بحال من الأحوال، بل المراد هو المسيح المنتظر، الذي وعد به بنو إسرائيل، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.

وقد أخطأ بطرس حين فهم أن النص يراد به المسيح، فقال:
"لأن داود لم يصعد إلى السموات. وهو نفسه يقول: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك. فليعلم يقيناً جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً، فلما سمعوا نخسوا في قلوبهم" (أعمال 2/29-37).

ودليل الخطأ في فهم بطرس، وكذا فهم النصارى، أن المسيح أنكر أن يكون هو المسيح الموعود على لسان داود،
"فيما كان الفريسيون مجتمعين سألهم يسوع قائلاً: ماذا تظنون في المسيح (أي الذي تنتظره اليهود)، ابن من هو؟ قالوا له: ابن داود. قال لهم: فكيف يدعوه داود بالروح رباً قائلاً: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك؟ فإن كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة. ومن ذلك اليوم لم يجسر أحد أن يسأله بتة" (متى 22/41-46).

فالمسيح سأل اليهود عن المسيح المنتظر الذي بشر به داود وغيره من الأنبياء،
"ماذا تظنون في المسيح، ابن من هو؟" فأجابوه: "ابن داود"، فخطأهم وقال: " فإن كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه "، وفي مرقس: " كيف يقول الكتبة أن المسيح ابن داود؟ لأن داود نفسه قال بالروح القدس: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك. فداود نفسه يدعوه رباً. فمن أين هو ابنه؟! " (مرقس 12/37).
وهو ما ذكره لوقا أيضاً
" وقال لهم: كيف يقولون أن المسيح ابن داود. وداود نفسه يقول في كتاب المزامير: قال الرب لربي: اجلس عن يميني، حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك؟ فإذا داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه". (لوقا 20/40-44).
وبخصوص ما جاء في إشعيا من التنبؤ بعمانوئيل، فهي ليست عن المسيح، الذي لم يتسم بهذا الاسم أبداً، ولم ينادَ به إطلاقاً.

والقصة في سفر إشعيا تتحدث عن قصة قد حصلت قبل المسيح بقرون، فقد جعل الله من ميلاد عمانوئيل علامة على زوال الشر عن بني إسرائيل في عهد الملك آحاز، وخراب مملكة راصين يقول إشعيا:
" ثم عاد الرب فكلم آحاز قائلاً:.. ولكن يعطيكم السيد نفسه آية. ها العذراء تحبل وتلد ابناً، وتدعو اسمه عمانوئيل. زبداً وعسلاً يأكل، متى عرف أن يرفض الشر ويختار الخير. لأنه قبل أن يعرف الصبي أن يرفض الشر ويختار الخير، تخلى الأرض التي أنت خاش من ملكيها، يجلب الرب عليك وعلى شعبك وعلى بيت أبيك أياماً لم تأتي منذ يوم اعتزال أفرايم عن يهوذا أي ملك أشور.

ويكون في ذلك اليوم أن الرب يصفر للذباب الذي في أقصى ترع مصر وللنحل الذي في أرض أشور... لأنه قبل أن يعرف الصبي أن يدعو: يا أبي ويا أمي تحمل ثروة دمشق وغنيمة السامرة قدام ملك أشور" (إشعياء 7/10- 8/4)
، فالنص يتعلق بأحداث حصلت قبل المسيح بقرون، وذلك إبان الغزو الأشوري لفلسطين.

وهذا النص الذي ذكره لوقا، وكذا النص الذي في إشعيا، قد تم تحريفهما عن الأصل ليصبحا نبوءة عن المسيح وأمه العذراء، وكانت الترجمات القديمة للتوراة مثل ترجمة أيكوئلا وترجمة تهيودوشن، وترجمة سميكس والتي تعود للقرن الثاني الميلادي، قد وضعت بدلاً من العذراء : المرأة الشابة، وهو يشمل المرأة العذراء وغيرها.

ويذكر العلامة أحمد ديدات أن النسخة المنقحة (R.S.V) والصادرة عام 1952م قد استبدلت كلمة العذراء في إشعيا بـ " الصبية "، ولكن هذا التنقيح لا يسري سوى على الترجمة الإنجليزية.

وبخصوص نبوءة النبي إشعيا
" لأنه يولد لنا ولد، ونعطى ابناً، وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام، لنمو رياسته وللسلام، لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته، ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد" (إشعيا9/6)، فإن أياً من هذه الأسماء لم يتسم به المسيح، فأين سمي عجيباً أو مشيراً أو قديراً أو أباً أو رئيس السلام، فليس في الكتاب المقدس نص يذكر أنه سمي بهذه الأسماء.

فإن قالوا المراد أن هذه صفات هذا الابن الموعود، فهي أيضاً لا تنطبق على المسيح بحال، فهي تتحدث عن نبي غالب منتصر يملك على قومه، ويكون وارثاً لملك داود، وكل هذا ممتنع في حق المسيح، ممتنع بدليل الواقع والنصوص.

فالمسيح لم يملك على قومه يوماً واحداً، بل كان فاراً من بني إسرائيل، خائفاً من بطشهم، كما هرب من قومه حين أرادوه أن يملك عليهم.
"وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً، انصرف أيضاً إلى الجبل وحده" (يوحنا 6/15)، لقد هرب منهم، وذلك لأن مملكته ليست دنيوية زمانية، ليست على كرسي داود، بل هي مملكة روحية في الآخرة "أجاب يسوع: مملكتي ليست من هذا العالم، لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلّم إلى اليهود، ولكن الآن ليست مملكتي من هنا" (يوحنا 18/36).

كما أن إشعيا يتحدث عن رئيس السلام، وهو لا ينطبق على الذي نسبت إليه الأناجيل أنه قال:
" لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض، ما جئت لألقي سلاماً، بل سيفاً، فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها، والكنّة ضد حماتها، وأعداء الإنسان أهل بيته " (متى 10/34 - 36)، فهل يسمى بعد ذلك رئيس السلام؟

ثم إن إشعيا يتحدث عن قدير، وليس عن بشر محدود لا يقدر أن يصنع من نفسه شيئاً كما قال عن نفسه:
" أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً، كما أسمع أدين" (يوحنا 5/30)، وفي نص آخر يقول لليهود: "الحق الحق أقول لكم: لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل، لأن مهما عمل ذاك، فهذا يعمله الابن كذلك" (يوحنا 5/19).

ثم إن الكتاب المقدس يمنع أن يكون المسيح ملكاً على بني إسرائيل، فقد حرم الله الملك على ذرية يهوياقيم أحد أجداد المسيح، فقد ملك على مملكة يهوذا، فأفسد، فقال الله فيه:
"هكذا قال الرب عن يهوياقيم ملك يهوذا: لا يكون له جالس على كرسي داود، وتكون جثته مطروحة للحر نهاراً وللبرد ليلاً، وأعاقبه ونسله وعبيده على إثمهم " ( إرميا 36/30 - 31 ).
والمسيح من ذرية هذا الملك الفاسق كما في سفر الأيام الأول
"بنو يوشيا: البكر: يوحانان، الثاني: يهوياقيم، الثالث: صدقيا، الرابع: شلّوم. وابنا يهوياقيم: يكنيا ابنه، وصدقيا ابنه" (الأيام (1) 3/14-15)، فيهوياقيم أحد أجداد المسيح.

وهو اسم أسقطه متى من نسبه للمسيح، بين يوشيا وحفيده يكنيا، فقال:
" وآمون ولد يوشيا. ويوشيا ولد يكنيا وإخوته عند سبي بابل " (متى 1/10-11).

ولا يخفى على القارئ النبيه سبب إسقاطه اسم هذا الجد من أجداد المسيح من سلسلة نسب المسيح.

إطلاقات لفظ الألوهية والربوبية في الكتاب المقدس

ثم لو صح الإطلاق والترجمة، فإنه ليس من دلالة لهذه الألفاظ على ألوهية المسيح، فإطلاق كلمة الرب والإله معهود على المخلوقات في الكتاب المقدس.

فمما ورد في كتب أهل الكتاب إطلاق لفظة "الرب" و "الإله" على الملائكة، فقد جاء في سفر القضاة، وهو يحكي عن ظهور ملاك الرب لمنوح وزوجه:
" ولم يعد ملاك الرب يتراءى لمنوح وامرأته، حينئذ عرف منوح أنه ملاك الرب، فقال منوح لامرأته: نموت موتاً، لأننا قد رأينا الله" (القضاة 13/21-22) ومراده ملاك الله.

وظهر ملاك الله لسارة وبشرها بإسحاق
"وقال لها ملاك الرب…فدعت اسم الرب الذي تكلم معها: أنت إيل رئي". (التكوين 16/11-13) فأطلقت على الملاك اسم الرب.

ومثله تسمية الملاك الذي صحب بني إسرائيل في رحلة الخروج بالرب
"وكان الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود سحاب ليهديهم في الطريق، وليلاً في عمود نار ليضيء لهم.... فانتقل ملاك الله السائر أمام عسكر إسرائيل وسار وراءهم. وانتقل عمود السحاب من أمامهم، ووقف وراءهم" (الخروج 13/21- 14/19)، فسمى الملاك رباً.

ومما جاء في التوراة إطلاق هذه الألفاظ على الأنبياء فقد قال الله لموسى عن هارون:
" وهو يكون لك فماً، وأنت تكون له إلهاً " (انظر الخروج 4 /16).

ومنها قول الله لموسى:
" فقال الرب لموسى: انظر. أنا جعلتك إلهاً لفرعون. وهارون أخوك يكون نبيّك" ( الخروج 7/1 ) أي: مسلطاً عليه.

وقد عهد تسمية الأنبياء (الله) مجازاً أي رسل الله فقد
" كان يقول الرجل عند ذهابه ليسأل الله: هلم نذهب إلى الرائي. لأن النبي اليوم كان يدعى سابقاً الرائي" (صموئيل(1)9/9).

وأطلقت لفظة "الله" وأريد منها القضاة، لأنهم يحكمون بشرع الله، ففي سفر الخروج
"إن قال العبد…يقدمه سيده إلى الله، ويقربه إلى الباب..." (الخروج20/5-6).

وفي السفر الذي يليه فيه
"وإن لم يوجد السارق يقدم صاحب البيت إلى الله ليحكم هل لم يمد يده إلى ملك صاحبه…فالذي يحكم الله بذنبه يعوض صاحبه" (الخروج 22/8-9).

وفي سفر التثنية
"يقف الرجلان اللذان بينهما الخصومة أمام الرب أمام الكهنة" (التثنية 19/17).

ومثله
"الله قائم في مجمع الله، في وسط الآلهة يقضي. حتى متى تقضون جوراً وترفعون وجوه الأشرار" (المزمور 82/1)، ومقصده أشراف بني إسرائيل وقضاتهم.

بل يمتد هذا الإطلاق ليشمل كل بني إسرائيل كما في قول داود في مزاميره:
" أنا قلت: إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم. لكن مثل الناس تموتون" (المزمور 82/6)، وهذا الذي استشهد به عيسى عندما قال: " أليس مكتوباً في ناموسكم: أنا قلت إنكم آلهة. إن قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله. ولا يمكن أن ينقض المكتوب. فالذي قدسه الآب، وأرسله إلى العالم أتقولون له: إنك تجدف لأني قلت: إني ابن الله. " (يوحنا 10/34).
وتستمر الكتب في إطلاق هذه الألفاظ حتى على الشياطين، والآلهة الباطلة للأمم، فقد سمى بولس الشيطان إلهاً، كما سمى البطن إلهاً، وأراد المعنى المجازي فقال عن الشيطان:
"إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين، لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح" (كورنثوس(2)4/5)، وقال عن الذين يتبعون شهواتهم ونزواتهم: "الذين إلههم بطنهم، ومجدهم في خزيهم…" (فيلبي 3/19) ومثله ما جاء في المزامير " لأني أنا قد عرفت أن الرب عظيم، وربنا فوق جميع الآلهة." (المزمور 135/5)، وألوهية البطن وسواها ألوهية مجازية غير حقيقية.

وهذه لغة الكتاب المقدس في التعبير، والتي يخطئ من يصر على فهم ألفاظها حرفياً كما يخطئ أولئك الذين يفرقون بين المتشابهات، وفي كتاب "مرشد الطالبين" : وأما اصطلاح الكتاب المقدس فإنه ذو استعارات وافرة غامضة خاصة العهد العتيق…و اصطلاح العهد الجديد أيضاً هو استعاري جداً، وخاصة مسامرات مخلصنا، وقد اشتهرت آراء كثيرة فاسدة لكون بعض معلمي النصارى شرحوها شرحاً حرفياً…"

كما إن المسيح وهو يسمع بمثل هذه الاستعارات والآلهة المجازية أوضح بأن هناك إلهاً حقيقياً واحداَ، هو الله، فقال:
"الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت، أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته" (يوحنا 17/3)، وهي ما تعني بوضوح: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله. وهو ما يعتقده المسلمون فيه عليه الصلاة والسلام

ومثل تلك الاستعارات ورد في القرآن كما في قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام لصاحبه في السجن [ اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه ] (يوسف: 42)، فمقصوده الملك.


2- بنوة المسيح للــه :

وتتحدث نصوص إنجيلية عن المسيح وتذكر أنه ابن الله، ويراها النصارى أدلة صريحة على ألوهية المسيح، فهل يصح هذا الاستدلال؟
هل سمى المسيح نفسه ابن الله ؟

أول ما يلفت المحققون النظر إليه أنه لم يرد عن المسيح- في الأناجيل- تسميته لنفسه بابن الله سوى مرة واحدة في يوحنا 10/37، وفيما سوى ذلك فإن الأناجيل تذكر أن معاصريه وتلاميذه كانوا يقولون بأنه ابن الله.

لكن المحققين يشككون في صدور هذه الكلمات من المسيح أو تلاميذه، يقول سنجر في كتابه "قاموس الإنجيل": ليس من المتيقن أن عيسى نفسه قد استخدم ذلك التعبير".

و يقول شارل جنيبر: "المسيح لم يدع قط أنه المسيح المنتظر، ولم يقل عن نفسه بأنه ابن الله، فهذه لغة استخدموها المسيحيون فيما بعد في التعبير عن عيسى".

قال العالم كولمن بخصوص هذا اللقب: "إن الحواريين الذين تحدث عنهم أعمال الرسل تأسَوا بمعلمهم الذي تحفظ على استخدام هذا اللقب ولم يرغب به فاستنوا بسنته" .

و يرى جنيبر أن المفهوم الخاطئ وصل إلى الإنجيل عبر الفهم غير الدقيق من المتنصرين الوثنيين فيقول:"مفهوم "ابن الله" نبع من عالم الفكر اليوناني".

و يرى البعض أن بولس هو أول من استعمل الكلمة، وكانت حسب لغة المسيح (عبد الله) وترجمتها اليونانية servant ، فأبدلها بالكلمة اليونانية pais بمعنى طفل أو خادم تقرباً إلى المتنصرين الجدد من الوثنيين.

المسيح هو أيضاً ابن الإنسان

ثم هذه النصوص التي تصف المسيح أنه ابن الله معارضة بثلاث وثمانين نصاً من النصوص التي أطلقت على المسيح لقب " ابن الإنسان " فلئن كانت تلك التي أسمته ابن الله دالة على ألوهيته فإن هذه مؤكدة لبشريته، صارفة تلك الأخرى إلى المعنى المجازي.

ومنها قول متى
" قال له يسوع: للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار.وأما ابن الإنسان فليس له، أين يسند رأسه." (متى 8/20)، وأيضاً قوله: " ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه" (مرقس 14/21)، وقد جاء في التوراة: " ليس الله إنساناً فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم". (العدد 23/9) فالمسيح ليس الله.

أبناء كثر لله، فهل هم آلهة ؟

ولفظ البنوة الذي أطلق على المسيح أطلق على كثيرين غيره، ولم يقتضِ ذلك ألوهيتهم.

منهم آدم الذي قيل فيه:
"آدم ابن الله" (لوقا 3/38).

وسليمان فقد جاء في سفر الأيام
"هو يبني لي بيتاً …أنا أكون له أباً، وهو يكون لي ابناً" (الأيام (1)17/12-13).

ومثله قوله لداود
" أنت ابني، أنا اليوم ولدتك " (المزمور 2/7)

كما سميت الملائكة أبناء الله
"مثلَ الملائكةِ وهم أبناء الله " (لوقا 20/36).

وسمت النصوص أيضاً آخرين أبناء الله، أو ذكرت أن الله أبوهم ، ومع ذلك لا يقول النصارى بألوهيتهم. فالحواريون أبناء الله ، كما قال المسيح عنهم:
" قولي لهم : إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم " (يوحنا 20/17).
وقال للتلاميذ أيضاً:
" فكونوا أنتم كاملين، كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل" (متى 5/48).

وعلمهم المسيح أن يقولوا:
"فصلوا أنتم هكذا: أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك.. " (متى 6/9)، وقوله :" أبوكم الذي في السماوات يهب خيرات للذين يسألونه" (متى 6/11)، فكان يوحنا يقول: " انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله." (يوحنا(1) 3/1)
بل واليهود كما في قول المسيح لليهود: "أنتم تعملون أعمال أبيكم.فقالوا له: إننا لم نولد من زنا. لنا أب واحد، وهو الله" (يوحنا 8/41).
كما يطلق هذا الإطلاق على الشرفاء والأقوياء من غير أن يفهم منه النصارى ولا غيرهم الألوهية الحقيقية
"أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات.فاتّخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا.... إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولاداً. هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم" (التكوين 6/2).

ومن الممكن أن يعم كل شعب إسرائيل
"يكون عدد بني إسرائيل كرمل البحر الذي لا يكال ولا يعدّ ويكون عوضاً عن أن يقال لهم: لستم شعبي، يقال لهم: " أبناء الله الحي" ( هوشع 1/10).

ونحوه:
" لما كان إسرائيل غلاماً أحببته، ومن مصر دعوت ابني" (هوشع 11/1).

ومن ذلك أيضاً ما جاء في سفر الخروج عن جميع شعب
" فتقول لفرعون هكذا: يقول الرب: إسرائيل ابني البكر. فقلت لك: أطلق ابني ليعبدني فأبيت" (الخروج 4/22) وخاطبهم داود قائلاً: "قدموا للرب يا أبناء الله، قدموا للرب مجداً وعزّاً" (المزمور 29/1)
ومثله قوله: "لأنه من في السماء يعادل الرب. من يشبه الرب بين أبناء الله" ( المزمور 89/6).

وفي سفر أيوب:
"كان ذات يوم أنه جاء بنو الله ليمثلوا أمام الرب "(أيوب 1/6).

وقال الإنجيل عنهم:
"طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعون" (متى 5/9).

وعليه فلا يمكن النصارى أن يجعلوا من النصوص المختصة بالمسيح أدلة على ألوهيته ثم يمنعوا إطلاق حقيقة اللفظ على آدم وسليمان و… وتخصيصهم المسيح بالمعنى الحقيقي يحتاج إلى مرجح لا يملكونه.

معنى البنوة الصحيح

والمعنى المقصود للبنوة في كل ما قيل عن المسيح وغيره إنما هو معنى مجازي بمعنى حبيب الله أو مطيع الله.

لذلك قال مرقس وهو يحكي عبارة قائد المائة الذي شاهد المصلوب وهو يموت فقال:
"حقاً كان هذا الإنسان ابن الله " (مرقس 15/39).

ولما حكى لوقا القصة نفسها أبدل العبارة بمرادفها فقال:
"بالحقيقة كان هذا الإنسان باراً" (لوقا 23/47).

ومثل هذا الاستخدام وقع من يوحنا حين تحدث عن أولاد الله فقال:
"وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا : أولاد الله. أي المؤمنين باسمه" (يوحنا 1/12).

ومثله يقول :
"الذي يسمع كلام الله من الله" (يوحنا 8/47).

و مثل هذه الإطلاق المجازي للبنوة معهود في الكتب المقدسة التي تحدثت عن أبناء الشيطان، وأبناء الدهر (الدنيا)…
(انظر يوحنا 8/44، لوقا 16/8).
وأما المعنى الحقيقي للبنوة فقد نطقت به الشياطين، فانتهرها المسيح، ففي إنجيل لوقا " كانت شياطين أيضاً تخرج من كثيرين وهي تصرخ وتقول: أنت المسيح ابن الله. فانتهرهم ولم يدعهم يتكلمون لأنهم عرفوه أنه المسيح". (لوقا 4/41).
بكورية المسيح بين الأبناء

لكن النصارى يرون تميزاً مستحقاً للمسيح في بنوته عن سائر الأبناء، فهم لا ينازعون في صحة الإطلاق المجازي عندما ترد لفظ البنوة بحق سائر المخلوقات.

لكن النـزاع إنما يكمن في تلك الأوصاف التي أطلقت على المسيح ويثبتها النصارى على الحقيقة محتجين بأمور، منها: أنه قد جاء وصف المسيح بأنه الابن البكر أو الوحيد لله
(انظر عبرانيين1/6، يوحنا3/18) أو أنه سمي ابن الله العلي ( انظر لوقا 1/32، 76)، أو أنه ابن ليس مولوداً من هذا العالم كسائر الأبناء، بل هو مولود من السماء، أو من فوق (انظر يوحنا 1/18).

ولكن ذلك كله تثبت النصوص أمثاله لأبناء آخرين.

فالبكورية وصف بها إسرائيل:
" إسرائيل ابني البكر" (الخروج 4/22-23).

وكذا افرايم
"لأني صرت لإسرائيل أباً، وإفرايم هو بكري" (إرميا 21/9).

وكذا داود
"هو يدعوني: أنت أبي وإلهي وصخرة خلاصي، وأنا أيضاً أجعله بكراً، فوق ملوك الأرض علياً". (المزمور 89/26-27).

و لئن قيل في المسيح أنه ابن الله العلي، فكذلك سائر بني إسرائيل
"و بنو العلي كلكم" (مزمور 82/6).

وكذا تلاميذ المسيح فهم أيضاً بنو العلي
" أحبوا أعداءكم…فيكون أجركم عظيماً، وتكونوا بني العلي" (لوقا 6/35).

3- النزول من السماء :

وتذكر الأناجيل بأن المسيح قد أتى من فوق أو من السماء و
"الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع" (يوحنا 3/31)، ويرون صورة ألوهيته مشرقة في قوله" أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم" (يوحنا 8/23)، فدل ذلك - وفق رأي النصارى - على أنه كائن إلهي فريد.

لكن المقصود من المجيء السماوي هو إتيان المواهب والشريعة، وهو أمر يستوي به مع سائر الأنبياء، ومنهم يوحنا المعمدان فقد سأل المسيح اليهود:
"معمودية يوحنا من أين كانت من السماء؟ أم من الناس؟ ففكروا في أنفسهم قائلين: إن قلنا من السماء، فيقولوا لنا :فلماذا لم تؤمنوا به؟ وإن قلنا: من الناس، نخاف من الشعب…" (متى 21/25-26).
وأما النازلون على الحقيقة من السماء فهم كثر ، ولا تعتبر النصارى أيا منهم آلهة، منهم الملائكة،
"لأن ملاك الرب نزل من السماء" (متى 28/2).
وكذا صعد أخنوخ إلى السماء "وسار أخنوخ مع الله، ولم يوجد، لأن الله أخذه" (التكوين 5/24)، ومن المعلوم أن "ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء" (يوحنا 3/13)، فأخنوخ مثله، ولا يقولون بألوهيته.

وكذا إيليا صعد إلى السماء
" ففصلت بينهما فصعد إيليا في العاصفة إلى السماء."(ملوك (2) 2/11).

وتذكر الأناجيل أن التلاميذ، هم أيضاً مولودين من فوق أو من الله، أي مؤمنين به، ففي يوحنا:
"و أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنين باسمه" (يوحنا 1/12) فالمقصود بالولاد، الولاد الروحي، بحيث يتغير قلب الإنسان الخاطئ تغيراً عظيماً كاملاً مستمراً، كأنه ولد ثانية، ويحدث ذلك عند توبته وإيمانه.

و المؤمنون بالمسيح مولودون من فوق بما أعطاهم الله من الإيمان، فهم كسائر المؤمنين كما قال المسيح:
"الحق الحق أقول لكم: إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله" (يوحنا 3/3).

وكذا قال:
"كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح، فقد ولد من الله" (يوحنا (1) 5/1).

وقال:
" كل من يصنع البر مولود منه" (يوحنا (1)2/29).

وقول المسيح: " أما أنا فلست من هذا العالم " ليس دليلاً على الألوهية بحال، فمراده اختلافه عن سائر البشر باستعلائه عن العالم المادي بل هو من فوق ذلك الحطام الذي يلهث وراءه سائر الناس.

وقد قال مثل هذا القول في حق تلاميذه أيضاً بعد أن لمس فيهم حب الآخرة والإعراض عن الدنيا، فقال:
" لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته، لكن لأنكم لستم من العالم، بل أنا اخترتكم من العالم، لذلك يبغضكم العالم" (يوحنا 15/19).

وفي موضع آخر قال عنهم:
" أنا قد أعطيتهم كلامك، والعالم أبغضهم، لأنهم ليسوا من العالم كما أني لست من العالم" ( 17/14-15)، فقال في حق تلاميذه ما قاله في حق نفسه من كونهم جميعاً ليسوا من هذا العالم، فلو كان هذا على ظاهره، وكان مستلزماً الألوهية ، للزم أن يكون التلاميذ كلهم آلهة ، لكن تعبيره في ذلك كله نوع من المجاز، كما يقال: فلان ليس من هذا العالم، يعني هو لا يعيش للدنيا و لا يهتم بها، بل همُّـهُ دوماً رضا الله والدار الآخرة.

4- الحلول الإلهي في المسيح :
و يرى النصارى أن بعض النصوص تفيد حلولاً إلهياً في عيسى، ومنها " لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب في وأنا فيه" (يوحنا 10/38)، وفي موضع آخر " الذي رآني فقد رأى الآب ...الآب الحال في " (يوحنا 14/9-10)، وقوله "أنا والآب واحد" (يوحنا 10/30).

فهذه النصوص أفادت – حسب قول النصارى - أن المسيح هو الله، أو أن حلولاً إلهياً حقيقياً لله فيه.
حلول الله المجازي على مخلوقاته

وقد تتبع المحققون هذه النصوص فأبطلوا استدلال النصارى بها، فأما ما جاءت من ألفاظ دلت على أن المسيح قد حل فيه الله-على ما فهمه النصارى- فإن فهمهم لها مغلوط .
ذلك أن المراد بالحلول حلول مجازي كما جاء في حق غيره بلا خلاف، ونقول مثله في مسألة الحلول في المسيح.

و هو ما أشارت إليه نصوص أخرى منها ما جاء في رسالة يوحنا
"من اعترف بأن يسوع هو ابن الله، فالله يثبت فيه، وهو في الله، ونحن قد عرفنا وصدقنا المحبة التي لله فينا، ومن يثبت في المحبة يثبت في الله، والله فيه" (يوحنا(1)4/15-16).

ومثله فإن الله يحل مجازاً في كل من يحفظ الوصايا ولا يعني ألوهيتهم ، ففي رسالة يوحنا:
"ومن يحفظ وصاياه يثبت فيه، وهو فيه، وبهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا" (يوحنا(1) 3/24) فليس المقصود تقمص الذات الإلهية لهؤلاء الصالحين، بل حلول هداية الله وتأييده عليه.

وكذا الذين يحبون بعضهم لله،
"إن أحب بعضنا بعضاً فالله يثبت فينا، ومحبته قد تكملت فينا. بهذا نعرف أننا نثبت فيه، وهو فينا". (يوحنا (1)4/12-13)
وكما في قوله عن التلاميذ: " أنا فيهم، وأنت في" (يوحنا 14 /19)، ومثله يقول بولس عن المؤمنين: "فإنكم أنتم هيكل الله الحي، كما قال الله: إني سأسكن فيهم، وأسير بينهم، وأكون لهم إلهاً، وهم يكونون لي شعباً" (كورنثوس (2) 6/16-17) فالحلول في كل ذلك مجازي.
فقد أفادت هذه النصوص حلولاً إلهياً في كل المؤمنين، وهذا الحلول هو حلول مجازي بلا خلاف، أي حلول هدايته وتوفيقه، ومثله الحلول في المسيح.

كما تذكر التوراة حلول الله - وحاشاه - في بعض مخلوقاته على الحقيقة، ولا تقول النصارى بألوهية هذه الأشياء، ومن ذلك ما جاء في سفر الخروج
"المكان الذي صنعته يا رب لسكنك" (الخروج 15/17)، فقد حل وسكن في جبل الهيكل، ولا يعبد أحد ذلك الجبل.

وفي المزامير:
"لماذا أيتها الجبال المسمنة ترصدون الجبل الذي اشتهاه الله لسكنه، بل الرب يسكن فيه إلى الأبد" (المزمور 68/16).

أنا والآب واحد

قول المسيح: "أنا والآب واحد" أهم ما يتعلق فيه أولئك الذين يقولون بألوهية المسيح، وقد فهموا منه وحدة حقيقية جهر بها المسيح أمام اليهود وفهموا منه أنه يعني الألوهية.

ولفهم النص نعود فنقرأ السياق من أوله، فنرى بأن المسيح كان يتمشى في رواق سليمان في عيد التجديد، فأحاط به اليهود وقالوا :
"إلى متى تعلق أنفسنا. إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهراً.

أجابهم يسوع: إني قلت لكم ولستم تؤمنون. الأعمال التي أنا أعملها باسم أبي هي تشهد لي، ولكنكم لستم تؤمنون، لأنكم لستم من خرافي كما قلت لكم: خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها فتتبعني، وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدي، أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل، ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي. أنا والآب واحد" (يوحنا10/24-30).


فالنص من أوله يتحدث عن قضية معنوية مجازية، فخراف المسيح أي تلاميذه يتبعونه، فيعطيهم الحياة الأبدية، أي الجنة، ولن يستطيع أحد أن يخطفها منه (أي يبعدها عن طريقه وهدايته) لأنها هبة الله التي أعطاه إياها، ولا يستطيع أحد أن يسلبها من الله الذي هو أعظم من الكل، فالله والمسيح يريدان لها الخير، فالوحدة وحدة الهدف لا الجوهر، وقد نبه المسيح لهذا حين قال بأن إرادة الله أعظم من إرادته.

لكن اليهود في رواق سليمان كان فهمهم لكلام المسيح سقيماً - أشبه ما يكون بفهم النصارى له -، لذا " تناول اليهود أيضاً حجارة ليرجموه، …لسنا نرجمك لأجل عمل حسن، بل لأجل تجديف، فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً"

فعرف المسيح خطأ فهمهم لكلامه، واستغرب منهم كيف فهموا هذا الفهم وهم يهود يعرفون لغة الكتب المقدسة في التعبير المجازي فأجابهم:
" أليس مكتوباً في ناموسكم: أنا قلت إنكم آلهة" ومقصده ما جاء في مزامير داود: "أنا قلت إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم" (المزمور82/6).
فكيف تستغربون بعد ذلك مثل هذه الاستعارات وهي معهودة في كتابكم الذي جعل بني إسرائيل آلهة بالمعنى المجازي للكلمة؟! فالمسيح أولى بهذه الوحدة من سائر بني إسرائيل
" إن قال: آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله.. فالذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم، أتقولون له إنك تجدف لأني قلت: إني ابن الله. إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي.." (يوحنا10/37)، وهكذا صحح المسيح لليهود ثم للنصارى الفهم السيء والحرفي لوحدته مع الآب.

وهذا الأسلوب في التعبير عن وحدة الهدف والمشيئة معهود في النصوص خاصة عند يوحنا، فهو يقول على لسان المسيح:
"ليكون الجميع واحداً كما أنت أيها الآب في، وأنا فيك، ليكونوا (أي التلاميذ) هم أيضاً واحداً فينا.. ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد... أنا فيهم وأنت في" (يوحنا 17/20-23)، فالحلول في المسيح والتلاميذ حلول معنوي فحسب، وإلا لزم تأليه التلاميذ، فكما المسيح والآب واحد، فإن التلاميذ والمسيح والآب أيضاً واحد، أي وحدة الهدف والطريق، لا وحدة الذوات، فإن أحداً لا يقول باتحاد التلاميذ ببعضهم أو باتحاد المسيح فيهم.

وفي موضع آخر ذكر نفس المعنى فقال عن التلاميذ:
" أيها الأب القدوس، احفظهم في اسمك الذي أعطيتني ليكونوا واحداً كما نحن" (يوحنا 17/11).
ومثله
"تعلمون أني أنا في أبي، وأنتم في، وأنا فيكم" (يوحنا 14/20).
ومثله قوله:
"إله وآب واحد للكل، الذي على الكل وبالكل، وفي كلكم" (أفسس 4/6).
ومثله يقول بولس:
"فإنكم أنتم هيكل الله الحي، كما قال الله: إني سأسكن فيهم، وأسير بينهم، وأكون لهم إلهاً، وهم يكونون لي شعباً". (كورنثوس (2) 6/16-17)

ومثله قول المسيح لتلاميذه:
" أنا الكرمة، وأنتم الأغصان، الذي يثبت في، وأنا فيه، هذا يأتي بثمر كثير" (يوحنا 15/5)، أي : يحبني ويطيعني ويؤمن بي فهذا يأتي بثمر كثير.

و المعنى الصحيح لقوله:
"لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب في وأنا فيه" (يوحنا 10/38) أن الله يكون في المسيح أي بمحبته وقداسته وإرشاده وتسديده، لا بذاته المقدسة التي لا تحل في الهياكل "العلي لا يسكن في هياكل مصنوعات الأيادي" (أعمال 7/48).
وقد تكرر هذا الأسلوب في التعبير عن وحدة الهدف والمشيئة في نصوص كثيرة منها قول بولس
" أنا غرست، وأبلوس سقى، …الغارس والساقي هما واحد، فإننا نحن عاملان مع الله" (كورنثوس(1)3/6-9).
ومثله جاء في التوراة في وصف الزوجين
"يترك الرجل أباه وأمه، ويلتصق بامرأته، ويكونان جسداً واحداً" (التكوين 2/24)، وغير ذلك من أمثلة وحدة المشيئة والهدف.

5- الذي رآني فقد رأى الآب

ومن أهم ما يستدل به النصارى على ألوهية المسيح قول المسيح
"الذي رآني فقد رأى الآب"(يوحنا 14/9) ولفهم النص نعود إلى سياقه.

فالسياق من أوله يخبر عن أن المسيح قال لتلاميذه:
"أنا أمضي لأعد لكم مكاناً، وإن مضيت وأعددتُ لكم مكاناً آتي أيضاً وآخذكم " وقصده بالمكان الملكوت .
فلم يفهم عليه توما فقال :" يا سيد لسنا نعلم أين تذهب، فكيف نقدر أن نعرف الطريق " ، لقد فهم أنه يتحدث عن طريق حقيقي وعن رحلة حقيقية، فقال له المسيح مصححاً ومبيناً أن الرحلة معنوية وليست حقيقية مكانية: "أنا هو الطريق والحق والحياة ". (يوحنا14/1-6)، أي اتباع شرعه ودينه هو وحده الموصل إلى رضوان الله وجنته، كما في قول بطرس: " بالحق أنا أجد أن الله لا يقبل الوجوه. بل في كل أمة الذي يتقيه ويصنع البر مقبول عنده" (أعمال 10/34).

ثم طلب منه فيلبس أن يريهم الله، فنهره المسيح وقال له:
" ألست تعلم أني أنا في الأب، والأب في، الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي، لكن الأب الحال في هو يعمل الأعمال…" (يوحنا 14/10) أي كيف تسأل ذلك يا فلبس، وأنت يهودي تعلم أن الله لا يرى، فالذي رآني رأى الآب ،حين رأى أعمال الله (المعجزات) التي أجراها على يد المسيح .
يشبه هذا النص تماماً ما جاء في مرقس " فأخذ ولداً وأقامه في وسطهم، ثم احتضنه، وقال لهم: من قبِل واحداً من أولاد مثل هذا باسمي يقبَلني، ومن قبلني فليس يقبلني أنا، بل الذي أرسلني" (مرقس 9/37)، فالنص لا يعني أن الطفل الذي رفعه المسيح هو ذات المسيح، ولا أن المسيح هو ذات الله، ولكنه يخبر عليه الصلاة والسلام أن الذي يصنع براً بحق هذا الطفل، فإنما يصنعه طاعة ومحبة للمسيح، لا بل طاعة لله وامتثالاً لأمره.
فالرؤية هنا معنوية، أي رؤية البصيرة لا البصر، ولهذا التأويل دليل قوي يسوغه، وهو أن عيسى لم يدع قط أنه الآب، ولا يقول بمثل هذا من النصارى أحد سوى الأرثوذكس الذين هم أيضاً لا يقولون بأن المسيح هو الآب، لكنهم يقولون: الآب هو الابن، فالمعنى الحقيقي القريب للرؤية مرفوض.

ومما يؤكد أن الرؤيا معنوية أنه قال بعد قليل:
" بعد قليل لا يراني العالم أيضاً، أما أنتم فترونني" (يوحنا 14 /19 ) فهو لا يتحدث عن رؤية حقيقية ، إذ لا يتحدث عن رفعه للسماء، فحينذاك لن يراه العالم ولا التلاميذ، لكنه يتحدث عن رؤية معرفية إيمانية يراها التلاميذ، وتعشى عنها وجوه العالم الكافر.

ويشهد له ما جاء في متى: يشهد له ما جاء في متى:
" ليس أحد يعرف الابن إلا الأب، ولا أحد يعرف الأب إلا الابن " (متى 11/27)، فهو المقصود من الرؤية المذكورة في النصوص السابقة، ونحوه قوله: "فنادى يسوع وقال: الذي يؤمن بي ليس يؤمن بي بل بالذي أرسلني. والذي يراني يرى الذي أرسلني. .. لأني لم أتكلم من نفسي، لكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية، ماذا أقول وبماذا أتكلم. وأنا أعلم أن وصيته هي حياة أبدية.

فما أتكلم أنا به فكما قال لي الآب هكذا أتكلم" (يوحنا 12/ 44-51)
، فالمقصود بكل ذلك رؤية المعرفة، وقوله: " والذي يراني يرى الذي أرسلني" ولا يمكن أن يراد منه أن الذي رأى الآب المرسِل قد رأى الابن المرسَل، إلا إذا كان المرسِل هو المرسَل، وهو محال للمغايرة التي بينهما كما قال المسيح: "أبي أعظم مني" (يوحنا 14/28)، وقال: "أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل" (يوحنا 10/29).

ومثل هذا الاستعمال الذي يفيد الاشتراك في الحكم بين المسيح والله، والذي عبر عنه هنا بالرؤية، مثل هذا معهود في العهد القديم والجديد، ففي العهد القديم لما رفض بنو إسرائيل صموئيل
" وقالوا له: هوذا أنت قد شخت، وابناك لم يسيرا في طريقك. فالآن اجعل لنا ملكاً يقضي لنا كسائر الشعوب، فساء الأمر في عيني صموئيل... فقال الرب لصموئيل: اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك، لأنهم لم يرفضوك أنت، بل إياي رفضوا " (صموئيل (1) 8/4-7)، إذ رفضهم طاعة صموئيل هو في الحقيقة عصيان لله في الحقيقة، ولذا قال: "أليس وهو باق كان يبقى لك، ولما بيع ألم يكن في سلطانك، فما بالك وضعت في قلبك هذا الأمر، أنت لم تكذب على الناس بل على الله، أليس وهو باق كان يبقى لك، ولما بيع ألم يكن في سلطانك، فما بالك وضعت في قلبك هذا الأمر.أنت لم تكذب على الناس بل على الله" (أعمال 5/4-5).
وكذا من يرى المسيح فكأنه يرى الله، ومن قبِل المسيح فكأنما قبل الله عز وجل، يقول لوقا: "من قبِل هذا الولد باسمي يقبلني. ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني " (لوقا 9/48)، وكذا من رأى الآب فقد رآني، لأنه " الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي، لكن الأب الحال في هو يعمل الأعمال…" (يوحنا 14/10).
وقوله: "أنا هو الطريق والحق والحياة" يقصد فيه المسيح الالتزام بتعليمه ودينه الذي أنزله الله عليه، فذلك فقط يدخل الجنة دار الخلود، كما قال في موطن آخر:
"يدخل ملكوت السموات بل الذي يفعل إرادة أبي" (متى 7 /21)، فالخلاص بالعمل الصالح والبر " أقول لكم إنكم أن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السموات .. ومن قال: يا أحمق، يكون مستوجب نار جهنم" (متى 5/20-23).

ويتأكد ضعف الاستدلال بهذا الدليل للنصارى "الذي رآني فقد رأى الآب" إذا آمنا أن رؤية الله ممتنعة في الدنيا، كما قال يوحنا:
" الله لم يره أحد قط" (يوحنا 1/18)، وكما قال بولس: " لم يره أحد من الناس، ولا يقدر أن يراه، الذي له الكرامة والقدرة الأبدية " (تيموثاوس(1) 6/16)، فيصير النص إلى رؤية المعرفة.
 
6- المسيح صورة الله

و من أدلة النصارى على ألوهية المسيح ما قاله بولس عنه: "مجد المسيح الذي هو صورة الله" (كورنثوس(2)4/4)، وفي فيلبي "المسيح يسوع أيضاً الذي إذا كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائر في صورة الناس" (فيلبي 2/6-7) ويقول عنه أيضاً "الذي هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة" (كولوسي 1/15).

لكن هذه الأقوال صدرت عن بولس، ولا نراها عند أحد من تلاميذ المسيح وحوارييه، وهذا كاف لإضفاء نظرة الشك والارتياب عليها.

ثم إن الصورة تغاير الذات، وصورة الله هنا تعني نائبه في إبلاغ شريعته كما قال بولس في موضع آخر عن الرجل :
" فإن الرجل لا ينبغي أن يغطي رأسه، لكونه صورة الله ومجده، وأما المرأة فهي مجد الرجل" (كورنثوس(1)11/7)، ومعناه أن الله أناب الرجل في سلطانه على المرأة.

كما أن كون المسيح على صورة الله لا يمكن أن يستدل به على ألوهيته، فإن آدم يشارك الله في هذه الصورة كما جاء في سفر التكوين عن خلقه:
"قال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا… فخلق الإله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه" (التكوين 1/26-27).

فإن أصر النصارى على الجمع بين الصورة وألوهية المسيح فإن في الأسفار ما يكذبهم فقد جاء في إشعيا
"اجتمعوا يا كل الأمم…لكي تعرفوا وتؤمنوا بي… قبلي لم يصور إله، وبعدي لا يكون. أنا أنا الرب، وليس غيري مخلص" (إشعيا 43/9-11).

7- أزلية المسيح

ويتحدث النصارى عن المسيح الإله الذي كان موجوداً في الأزل قبل الخليقة، ويستدلون لذلك بأمور، منها ما أورده يوحنا على لسان المسيح أنه قال:
" إن إبراهيم تشوق إلى أن يرى يومي هذا، فقد رآني وابتهج بي، من قبل أن يكون إبراهيم كنت أنا " (يوحنا 8/56-58)، ففهموا منه - باطلاً – أن وجوده قبل إبراهيم يعني أنه كائن أزلي.

ويقول يوحنا عن المسيح:
"هوذا يأتي مع السحاب، وستنظره كل عين، والذين طعنوه…أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية" (الرؤيا1/7-8) أي الأول والآخر.

كما جاء في مقدمة يوحنا ما يفيد وجوداً أزلياً للمسيح قبل خلق العالم
" في البدء كانت الكلمة، الكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان في البدء عند الله" (يوحنا1/1-2) فهذه النصوص مصرحة برأي النصارى بأزلية المسيح وأبديته، وعليه فهي دليل ألوهيته.

ويخالف المحققون في النتيجة التي توصل إليها النصارى، إذ ليس المقصود الوجود الحقيقي للمسيح كشخص، بل المقصود الوجود القدري والاصطفائي، أي اختيار الله واصطفاؤه له قديم ، كما قال بولس عن نفسه وأتباعه
" كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين" (أفسس 1/4) أي اختارنا بقدره القديم، ولا يفيد أنهم وجدوا حينذاك، وهذا الاصطفاء هو المجد الذي منحه الله المسيح، كما في قوله: "والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم" (يوحنا 17/5)، وهو المجد الذي أعطاه لتلاميذه حين اصطفاهم واختارهم للتلمذة كما الله اختاره للرسالة "وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني" (يوحنا 17/22)

ومثله عرف إبراهيم المسيح قبل خلقه، لا بشخصه طبعاً، لأنه لم يره قطعاً " فقد رآني وابتهج بي"، فالرؤية مجازية، وهي رؤية المعرفة، وإلا لزم النصارى أن يذكروا دليلاً على رؤية إبراهيم للابن الذي هو الأقنوم الثاني.

وقول يوحنا على لسان المسيح أنه قال:
"من قبل أن يكون إبراهيم كنت أنا " (يوحنا 8/56-58)، لا يدل على وجوده في الأزل، وغاية ما يفيده النص إذا أخذ على ظاهره أن للمسيح وجوداً أرضياً يعود إلى زمن إبراهيم، وزمن إبراهيم لا يعني الأزل.

ثم لو كان المسيح أقدم من إبراهيم وسائر المخلوقات، فإن له لحظة بداية خُلق فيها، كما لكل مخلوق بداية، وهو ما ذكره بولس:
"الذي هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة" (كولوسي 1/15)، فهو مخلوق، لكنه بكر الخلائق أي أولها، والخلق يتنافى مع الأزلية.

وممن شارك المسيح في هذه الأزلية المدعاة، ملكي صادق كاهن ساليم في عهد إبراهيم، فإن بولس يزعم أن لا أب له ولا أم، ويزعم أن لا بداية له ولا نهاية، أي هو أزلي أبدي، يقول:
"ملكي صادق هذا ملك ساليم كاهن الله العلي…بلا أب، بلا أم، بلا نسب، لا بداءة أيام له، ولانهاية حياة، بل هو مشبه بابن الله، هذا يبقى كاهناً إلى الأبد" (عبرانيين 7/1-3)، فلم لا يقول النصارى بألوهية ملكي صادق الذي يشبه بابن الله، لكثرة صور التشابه بينهما ؟  بل هو متفوق على المسيح الذي يذكر النصارى أنه صلب ومات، وله أم بل وأب حسب ما أورده متى ولوقا، في حين ملكي صادق قد تنـزه على ذلك كله؟

ومنهم سليمان حين قال عن نفسه:
"أنا الحكمة أسكن الذكاء، وأجد معرفة التدابير…الرب قناني أول طريقه، من قبل أعماله منذ القديم، منذ الأزل مسحت، منذ البدء، منذ أوائل الأرض، إذ لم يكن ينابيع كثيرة المياه، ومن قبل أن تقرر الجبال أُبدئت، قبل التلال أبدئت …" (الأمثال 8/12-25).
وقول بعض النصارى أنه كان يتحدث عن المسيح لا دليل عليه , فسليمان هو الموصوف بالحكمة في الكتاب المقدس ، كما في سفر الأيام
"مبارك الرب إله إسرائيل الذي صنع السماء والأرض، الذي أعطى داود الملك ابناً حكيماً صاحب معرفة وفهم، الذي يبني بيتاً للرب وبيتاً لملكه" (أيام (2) 2/12).

وكلمة "منذ الأزل مسحت" لا تدل على المسيح، إذ لفظ "المسيح" لقب أطلق على كثيرين غير المسيح عيسى ممن مسحهم الله ببركته من الأنبياء كداود وإشعيا
(المزمور 45/7، وإشعيا 61/1)، فلا وجه لتخصيص المسيح بهذا اللقب.

ثم إن الحكمة لم تطلق أصلاً على المسيح، ولم يختص بها، فلا وجه في الدلالة على ألوهية المسيح بهذا النص قطعاً.

أما نصوص سفر الرؤيا والتي ذكرت أن المسيح الألف والياء، وأنه الأول والآخر، فلا تصلح للدلالة في مثل هذه المسائل، فهي كما أشار العلامة ديدات وجميع ما في هذا السفر مجرد رؤيا منامية غريبة رآها يوحنا، ولا يمكن أن يعول عليها، فهي منام مخلط كسائر المنامات التي يراها الناس، فقد رأى يوحنا حيوانات لها أجنحة وعيون من أمام، وعيون من وراء، وحيوانات لها قرون بداخل قرون…
(انظر الرؤيا 4/8)، فهي تشبه إلى حد بعيد ما يراه في نومه من أتخم في الطعام والشراب، وعليه فلا يصح به الاستدلال.

ثم في آخر هذا السفر مثل هذه العبارات صدرت عن أحد الملائكة كما يظهر من سياقها، وهو قوله:
" أنا يوحنا الذي كان ينظر ويسمع هذا.وحين سمعت ونظرت خررت لأسجد أمام رجلي الملاك الذي كان يريني هذا. فقال لي: انظر لا تفعل. لأني عبد معك ومع إخوتك الأنبياء والذين يحفظون أقوال هذا الكتاب.اسجد للّه. وقال لي: لا تختم على أقوال نبوة هذا الكتاب لأن الوقت قريب.. وها أنا آتي سريعاً، وأجرتي معي. أنا الألف والياء.

البداية والنهاية. الأول والآخر" (الرؤيا 22/8-13)
وليس في ظاهر النص ما يدل على انتقال الكلام من الملاك إلى المسيح أو غيره.

مقدمة إنجيل يوحنا

وأما ما جاء في مقدمة يوحنا
" في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله. كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان" ( يوحنا 1/1-3 ) فقد كان للمحققين معه وقفات عديدة ومهمة منها :
- ينبه ديدات إلى أن هذا النص قد انتحله كاتب الإنجيل من فيلون الإسكندراني ( ت40م ) ، وأنه بتركيباته الفلسفية غريب عن بيئة المسيح وبساطة أقواله وعامية تلاميذه، وخاصة يوحنا الذي يصفه سفر أعمال الرسل بأنه عامي عديم العلم، فيقول: " فلما رأوا مجاهرة بطرس ويوحنا، ووجدوا أنهما إنسانان عديما العلم وعاميان تعجبوا " ( أعمال 4/13 ).
- كما ينبه ديدات إلى أن ثمة تلاعباً في الترجمة الإنجليزية، وهي الأصل الذي عنه ترجم الكتاب المقدس إلى لغات العالم.
ولفهم النص على حقيقته نرجع إلى الأصل اليوناني .
فالنص في الترجمة اليونانية تعريبه هكذا "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله" وهنا يستخدم النص اليوناني بدلاً من كلمة (الله) كلمة ( hotheos )، وفي الترجمة الإنجليزية تترجم ( God ) للدلالة على أن الألوهية حقيقة.
ثم يمضي النص فيقول "و كان الكلمة الله" و هنا يستخدم النص اليوناني كلمة ( tontheos ) وكان ينبغي أن يستخدم في الترجمة الإنجليزية كلمة ( god ) بحرف صغير للدلالة على أن الألوهية مجازية، كما وقع في نص سفر الخروج "جعلتك إلهاً لفرعون" (الخروج 7/1)، فاستخدم النص اليوناني كلمة ( tontheos ) وترجمت في النص الإنجليزي( god ) مع وضع أداة التنكير( a ).
لكن الترجمة الإنجليزية حرفت النص اليوناني لمقدمة يوحنا فاستخدمت لفظة ( God ) التي تفيد ألوهية حقيقة بدلاً من ( god ) التي تفيد ألوهية معنوية أو مجازية، فوقع اللبس في النص، وهذا ولا ريب نوع من التحريف.
ولو غض المحققون الطرف عن ذلك كله فإن في النص أموراً ملبسة تمنع استدلال النصارى به على ألوهية المسيح.
أولها: ما معنى كلمة "البدء"؟ ويجيب النصارى أي الأزل.
لكن ذلك لا يسلم لهم، فإن الكلمة وردت في الدلالة على معانٍ منها:
- وقت بداية الخلق والتكوين كما جاء في " في البدء خلق الله السموات والأرض" (التكوين1/1).
- وترد بمعنى وقت نزول الوحي، كما في قول متى "و لكن من البدء لم يكن هذا" (متى 19/8).
وقد تطلق على فترة معهودة من الزمن كما في قول لوقا "كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء" (لوقا 1/2)، أي في أول رسالة المسيح.
ومثله "أيها الإخوة لست أكتب إليكم وصية جديدة بل وصية قديمة كانت عندكم من البدء. الوصية القديمة هي الكلمة التي سمعتموها من البدء" ( يوحنا (1) 2/7).
ومثله أيضاً "ولكن منكم قوم لا يؤمنون.لأن يسوع من البدء علم من هم الذين لا يؤمنون ومن هو الذي يسلمه" (يوحنا6/64).
ومثله " أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. ذاك كان قتالاً للناس من البدء ولم يثبت في الحق، لأنه ليس فيه حق"(يوحنا 8/44).
ومثله " فقالوا له: من أنت؟ فقال لهم يسوع : أنا من البدء ما أكلمكم أيضاً به" (يوحنا 8/25).
وعليه فلا يجوز قول النصارى بأن المراد بالبدء هنا الأزل إلا بدليل مرجح.
ويرجح الشيخ العلمي في كتابه الفريد "سلاسل المناظرات" بأن المعنى هنا هو بدء تنزل الوحي على الأنبياء أي أنه كان بشارة صالحة عرفها الأنبياء كما في (إرميا 33/14).
ثانيها: ما المقصود بالكلمة؟ هل هو المسيح؟ أم أن اللفظ يحتمل أموراً أخرى، وهو الصحيح. فلفظة "الكلمة" لها إطلاقات في الكتاب المقدس، منها الأمر الإلهي الذي به صنعت المخلوقات، كما جاء في المزامير" بكلمة الله صنعت السماوات" (المزمور 13/6).
ومثله: " وقال الله: ليكن نور فكان نور" (التكوين 1/3) و منه سمي المسيح كلمة لأنه خلق بأمر الله من غير سبب قريب، أو لأنه أظهر كلمة الله، أو أنه الكلمة الموعودة على لسان الأنبياء.
وأما المعنى الذي يريده النصارى بالكلمة، وهو الأقنوم الثاني من الثالوث، فلم يرد في كتب الأنبياء البتة.
ثالثها: " وكان الكلمة الله " غاية ما يستدل بها أن المسيح أطلق عليه: الله، كما أطلق على القضاة في التوراة " الله قائم في مجمع الله. في وسط الآلهة يقضي. حتى متى تقضون جوراً وترفعون وجوه الأشرار" (المزمور82/1)، والشرفاء في قول داود: " أحمدك من كل قلبي، قدام الآلهة أرنم لك" (138/1)، وقد قال الله لموسى عن هارون: " وهو يكون لك فماً، وأنت تكون له إلهاً " (انظر الخروج 4 /16) وغيرهم كما سبق بيانه .
رابعها: "والكلمة كان عند الله"، والعندية لا تعني المثلية ولا المساواة. إنما تعني أن الكلمة خلقت من الله كما في قول حواء: " اقتنيت رجلاً من عند الرب" (التكوين 4/1)، فقايين ليس مساوياً للرب، ولا مثله، وإن جاءها من عنده، وجاء في موضع آخر" وأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتاً وناراً من عند الرب" (التكوين 19/24).

8- إسناد الخالقية للمسيح

كما أسندت بعض النصوص الخالقية للمسيح، فتعلق النصارى بها، ورأوها دالة على ألوهيته ومنها قول بولس عن المسيح:
" فإن فيه خلق الكل: ما في السماوات وما على الأرض، ما يرى وما لا يرى، سواء أن كان عروشاً أم رياسات أم سلاطين، الكل به وله قد خلق" (كولوسي1/16-17)، وفي موضع آخر يقول:"الله خالق الجميع بيسوع المسيح" (أفسس3/9)، ومثله ما جاء في مقدمة يوحنا " كان في العالم، وكون العالم به، ولم يعرفه العالم" (يوحنا 1/10)، ومثله في (عبرانيين1/2).

و لا يسلم المحققون أن المقصود من هذه النصوص أن المسيح خلق الخلائق خلقة الإيجاد، بل المقصود الخلقة الجديدة، وهي خلقة الهداية التي تحدث عنها داود وهو يدعو الله:
"قلباً نقياً اخلق فيّ يا الله، وروحاً مستقيماً جدد في داخلي" (مزمور51/10).
ومثله قال بولس عن المؤمنين بالمسيح:
"إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة" (كورنثوس(2)5/17).
وقال:
"لأنه في المسيح ليس الختان ينفع شيئاً ولا الغرلة، بل الخليقة الجديدة" (غلاطية6/15).

وفي موضع آخر يقول:
"تلبسوا الإنسان المخلوق الجديد بحسب الله في البر". (أفسس4/24).
وقال عن المسيح:
"بكر كل خليقة" (كولوسي1/15)، أي أنه أول المؤمنين وأول المسلمين، وعلى هذا الأساس اعتبر يعقوب التلاميذ باكورة المخلوقات فقال: "شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه" (يعقوب1/18).

و عليه فإن المقصود من خلق المسيح للبشر هو الخلق الروحي، إذ جعله الله محيياً لموات القلوب وقاسيها.

لكن الحق أن النصوص التي يتعلق بها النصارى لا تتعلق بالبشر فقط، إذ فيها أنه خلق ما في السماوات والأرض، وهذا يمنع صرف النص إلى الخليقة الجديدة.
لكن هذه النصوص مبالغة معهود مثلها في النصوص التوراتية والإنجيلية، ومن ذلك قول موسى لبني إسرائيل : "هوذا أنتم اليوم كنجوم السماء في الكثرة" (التثنية1/10).

ومثله في قوله:
" وكان المديانيون والعمالقة وكل بني المشرق حالّين في الوادي كالجراد في الكثرة.وجمالهم لا عدد لها، كالرمل الذي على شاطئ البحر في الكثرة" (القضاة 7/12).
ويقول متى:
" فصرخ يسوع أيضا بصوت عظيم وأسلم الروح، وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل. والأرض تزلزلت، والصخور تشققت. والقبور تفتحت، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين. وخرجوا من القبور بعد قيامته ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين."(متى 27/51).

وتصل المبالغة عند يوحنا أقصاها حين قال:
"وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع، إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة". (يوحنا21/25) …

ولا يمكن أن يكون المسيح خالقاً للسماوات والأرض وما بينهما، إذ هو ذاته مخلوق، وإن زعمت النصارى أنه أول المخلوقين، لكنه على كل حال مخلوق، والمخلوق غير الخالق،
" الذي هو صورة الله غير المنظور، بكر كل خليقة" (كولوسي 1/15).
إن الذي عجز عن رد الحياة لنفسه عندما مات لهو أعجز من أن يكون خالقاً للسماوات والأرض. " فيسوع هذا أقامه الله" (أعمال 2/32)، ولو لم يقمه الله لم يقم من الموتى، وفي موضع آخر: "ورئيس الحياة قتلتموه الذي أقامه الله من الأموات " (أعمال 3/15).
9- إسناد الدينونة للمسيح

وتتحدث الأسفار عن المسيح وأنه ديان الخلائق يوم القيامة، يقول بولس:
"أنا أناشدك إذاً أمام الله والرب يسوع المسيح العتيد أن يدين الأحياء والأموات عند ظهوره وملكوته" (تيموثاوس (2) 4/1) فيرون في ذلك دليلاً على ألوهيته لأن التوراة تقول: "الله هو الديان" (المزامير 50/6)،
لكن ثمة نصوص تمنع أن يكون المسيح هو الديان
" لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلّص به العالم. الذي يؤمن به لا يدان، والذي لا يؤمن قد دين، لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد" (يوحنا 3/17)، فالمسيح لن يدين أحداً، وهو ما أكده يوحنا بقوله: " وإن سمع أحد كلامي ولم يؤمن فأنا لا أدينه، لأني لم آت لأدين العالم بل لأخلص العالم، من رذلني ولم يقبل كلامي فله من يدينه (أي الله وشرعه). الكلام الذي تكلمت به هو يدينه في اليوم الأخير" (يوحنا 12/47-48).

وإن أصر النصارى على أن الدينونة من أعمال المسيح فإن آخرين يشاركونه فيها، وهم التلاميذ الاثني عشر بما فيهم الخائن يهوذا الأسخريوطي
" فقال لهم يسوع: الحق أقول لكم: إنكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد، متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضاً على اثني عشر كرسياً تدينون أسباط إسرائيل الإثني عشر" (متى 19/28).
وفي لوقا
" لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي وتجلسوا على كراسيّ، تدينون أسباط إسرائيل الإثني عشر" (لوقا 22/30) .

10- غفران المسيح الذنوب

ومما يستدل به النصارى على ألوهية المسيح ما نقلته الأناجيل من غفران ذنب المفلوج والخاطئة على يديه، والمغفرة من خصائص الألوهية، وعليه فالمسيح إله يغفر الذنوب، فقد قال للخاطئة مريم المجدلية:
"مغفورة لك خطاياك " (لوقا 7/48)، كما قال للمفلوج: " ثق يا بني، مغفورة لك خطاياك " وقد اتهمه اليهود بالتجديف فقالوا: " قالوا في أنفسهم: هذا يجدّف " (متى 9/3).

لكنا إذا رجعنا إلى قصتي الخاطئة والمفلوج فإنا سنرى وبوضوح أن المسيح ليس هو الذي غفر ذنبيهما، ففي قصة المرأة لما شكّ الناس بالمسيح وكيف قال لها: "مغفورة خطاياك"، وهو مجرد بشر، أزال المسيح اللبس، وأخبر المرأة أن إيمانها هو الذي خلصها، ويجدر أن ننبه إلى أن المسيح لم يدع أنه هو الذي غفر ذنبها، بل أخبر أن ذنبها قد غُفر، والذي غفره بالطبع هو الله تعالى.

والقصة بتمامها كما أوردها لوقا:
"وأما هي فقد دهنت بالطيب رجليّ، من أجل ذلك أقول لك: قد غُفرت خطاياها الكثيرة، لأنها أحبت كثيراً، والذي يغفر له قليل يحب قليلاً، ثم قال لها: مغفورة لك خطاياك، فابتدأ المتكئون معه يقولون في أنفسهم: من هذا الذي يغفر خطايا أيضاً؟! فقال للمرأة: إيمانك قد خلّصك، اذهبي بسلام" (لوقا 7/46-50)

وكذا في قصة المفلوج لم يدع المسيح أنه الذي يغفر الذنوب، فقد قال للمفلوج: "ثق يا بني، مغفورة لك خطاياك" فأخبر بتحقق الغفران، ولم يقل : إنه هو الغافر لها، ولما أخطأ اليهود، ودار في خلدهم أنه يجدف، وبخهم المسيح على الشر الذي في أفكارهم، وصحح لهم الأمر، وشرح لهم أن هذا الغفران ليس من فعل نفسه، بل هو من سلطان الله، لكن الله أذن له بذلك، كما سائر المعجزات والعجائب التي كان يصنعها، وقد فهموا منه المراد وزال اللبس من صدورهم، "فلما رأى الجموع تعجبوا، ومجدوا الله الذي أعطى الناس سلطاناً مثل هذا ".

والقصة بتمامها كما أوردها متى كالتالي:
" قال للمفلوج: ثق يا بني، مغفورة لك خطاياك، وإذا قوم من الكتبة قد قالوا في أنفسهم: هذا يجدّف، فعلم يسوع أفكارهم فقال: لماذا تفكرون بالشر في قلوبكم؟ أيما أيسر أن يقال مغفورة لك خطاياك، أم أن يقال قم وامش؟ ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطاناً على الأرض أن يغفر الخطايا، حينئذ قال للمفلوج: قم احمل فراشك واذهب إلى بيتك، فقام ومضى إلى بيته، فلما رأى الجموع تعجبوا، ومجدوا الله الذي أعطى الناس سلطاناً مثل هذا" (متى 9/3-8).

وهذا السلطان دفع إليه كما دفع كثير غيره من الله تبارك وتعالى:
"التفت إلى تلاميذه وقال: كل شيء قد دفع إليّ من أبي" (لوقا 10/22)، وإلا فهو لا حول له ولا قوة، قد قال في موضع آخر: " دفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض" (متى 28/18)، لكنه ليس سلطانه الشخصي، بل هو قد دفع إليه من الله.

وسلطان غفران الخطايا دفع أيضاً إلى غير المسيح، فقد دفع إلى التلاميذ، وأصبح بإمكانهم غفران الذنوب التي تتعلق بحقوقهم الشخصية بل وكل الذنوب والخطايا، ومغفرتهم للذنوب الشخصية يقول عنه:
"إن غفرتم للناس زلاتهم، يغفر لكم أيضاً أبوكم السماوي، وان لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضاً زلاتكم" (متى 6/14-15)، فيما يعطيهم يوحنا صكاً مفتوحاً في غفران أي ذنب وخطيئة، فيقول: "من غفرتم خطاياه تغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أمسكت "(يوحنا 20/28)، فهم كالمسيح عليه السلام.

وقد ورثت الكنيسة عن بطرس والتلاميذ هذا المجد وهذا السلطان، فأصبح القسس يغفرون للخاطئين عن طريق الاعتراف أو صكوك الغفران، واعتمدوا في إقرار ذلك على وراثتهم للسلطان الذي دفع لبطرس
"أنت بطرس... وأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السماوات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السماوات.." (متى 16/19 )، فلو غفر بطرس أو البابا وارثه لإنسان غفرت خطيئته من غير أن يقتضي ذلك ألوهيته.

وهذا السلطان دفع لكل التلاميذ
" الحق أقول لكم: كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء، وكل ما تحلّونه على الأرض يكون محلولاً في السماء، وأقول لكم أيضاً: إن اتفق اثنان منكم على الأرض في أي شيء يطلبانه فإنه يكون لهما من قبل أبي الذي في السموات" (متى 18/18-20)، لكنه كما لا يخفى لا يعني ألوهيتهم لأنه ليس حقاً شخصياً لهم، بل هبة إلهية وهبت لهم ولمعلمهم المسيح. هذا ما يذكره الكتاب المقدس.

ولما كان المسيح لا يملكه من تلقاء نفسه فقد طلب من الله أن يغفر لليهود، ولو كان يملكه لغفر لهم ولم يطلبه من الله كما في لوقا
" فقال يسوع: يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لوقا 23/34).

11- السجود للمسيح

وتتحدث الأناجيل عن سجود بعض معاصري المسيح له، ويرون في سجودهم له دليل ألوهيته واستحقاقه للعبادة، فقد سجد له أب الفتاة النازفة
" فيما هو يكلمهم بهذا إذا رئيس قد جاء، فسجد له " (متى 9/18)، كما سجد له الأبرص "إذا أبرص قد جاء وسجد له "(متى 8/2)، وسجد له المجوس في طفولته " فخروا وسجدوا له، ثم فتحوا كنوزهم " ( متى 2/11 ).

فيما رفض بطرس سجود كرنيليوس له، وقال له :
"قم أنا أيضاً إنسان" (أعمال 10/25)، فقد اعتبر السجود نوعاً من العبادة لا ينبغي إلا لله، وعليه يرى النصارى في رضا المسيح بالسجود له دليلاً على أنه كان إلهاً.

ولا ريب أن السجود مظهر من مظاهر العبادة، لكنه لا يعني بالضرورة أن كل سجود عبادة، فمن السجود ما هو للتبجيل والتعظيم فحسب، فقد سجد يعقوب وأزواجه وبنيه لعيسو بن إسحاق حين لقائه
" وأما هو فاجتاز قدامهم، وسجد إلى الأرض سبع مرات، حتى اقترب إلى أخيه.. فاقتربت الجاريتان هما وأولادهما وسجدتا، ثم اقتربت ليئة أيضاً وأولادها وسجدوا. وبعد ذلك اقترب يوسف وراحيل، وسجدا " (التكوين 33/3-7).
كما سجد موسى عليه السلام لحماه حين جاء من مديان لزيارته
"فخرج موسى لاستقبال حميه، وسجد، وقبّله" (خروج 18/7)، وسجد إخوة يوسف تبجيلاً لا عبادة لأخيهم يوسف " أتى إخوة يوسف، وسجدوا له بوجوههم إلى الأرض" (التكوين 42/6)، واستمرت هذه العادة عند بني إسرائيل " وبعد موت يهوياداع جاء رؤساء يهوذا، وسجدوا للملك " (الأيام (2) 24/7).

وكل هذه الصور وغيرها لا تفيد أكثر من الاحترام، وعليه يحمل سجود من سجد للمسيح، فيما كان رفض بولس وبطرس لسجود الوثنيين لهما بسبب أن مثل هؤلاء قد يكون سجودهم من باب العبادة، لا التعظيم، خاصة أنهم يرون معجزات التلاميذ، فقد يظنونهم آلهة لما يرونه من أعاجيبهم.

0 commentaires:

إرسال تعليق