الروح القدس في الكتاب المقدس


 الروح القدس في الكتاب المقدس

الروح القدس هو ثالث أطراف الثالوث الأقدس عند النصارى، فمن هو الروح القدس؟ وما أدلة النصارى على تأليهه؟

في عام 381م وبأمر الإمبراطور تاؤديوس انعقد مجمع القسطنطينية للنظر في قول الأسقف مكدونيوس أسقف القسطنطينية الأريوسي، والذي كان ينكر ألوهية الروح القدس ويقول بما تقوله الأسفار عن الروح القدس : "إن الروح القدس عمل إلهي منتشر في الكون، وليس أقنوماً متميزاً عن الأب و الابن"، وكان يقول عنه: إنه كسائر المخلوقات، ويراه خـادماً للابن كأحد الملائكة.
وقد حضر المجمع مائة وخمسون أسقفاً، وقرروا حرمان مكدونيوس وتجريده من وظائفه الكنسية، واتخذوا أحد أهم قرارات المجامع الكنسية، وهو تأليه الروح القدس ، واعتبروه مكملاً للثالوث الأقدس، وقالوا: "ليس روح القدس عندنا بمعنى غير روح الله، و ليس الله شيئاً غير حياته، فإذا قلنا أن روح القدس مخلوق فقد قلنا: إن الله مخلوق".

يتعلق النصارى في تأليه الروح القدس بما جاء في إنجيل يوحنا:
"إن الله روح" (يوحنا 4/24)، كما يرونه الروح الموجودة منذ بدء الخليقة "
في البدء خلق الله السماوات والأرض… و روح الله يرف على وجه الماء" (التكوين 1/1-2) وكذا كثير من النصوص يتحدث عن الروح أو روح الله أو الروح القدس.
يقول القس ياسين منصور : " إن الروح القدس هو الله الأزلي ، فهو الكائن منذ البدء قبل الخليقة، وهو الخالق لكل شيء، والقادر على كل شـيء، والحاضر في كل مكان، وهو السرمدي غير المحدود ".
ويقـول في موضع آخـر : "إن الروح القدس هو الأقنوم الثالث في اللاهوت، وهو ليس مجرد تأثير أو صفة أو قوة، بل هو ذات حقيقي، وشخص حي، وأقنوم متميز ولكنه غير منفصل، وهو وحدة أقنومية غير أقنوم الآب وغـير أقنوم الابن ، ومسـاوٍ لهما في السـلطان والمقـام، ومشترك وإياهما في جوهر واحد ولاهوت واحد".

نقض أدلة ألوهية الروح القدس :

ومن المهم أن نقرر أن روح القدس في الكتاب المقدس من أغمض المصطلحات الكتابية، وهو على أية حال لا يتفق مع المعنى الذي قدمه مجمع القسطنطينية، فقد ورد هذا الإطلاق في الكتاب المقدس على معان متعددة:
1- الروح التي هي مادة الحياة، ومنه ما جاء في سفر التكوين " فقال الرب: لا تحل روحي على إنسان أبداً، لأنه جسد" (التكوين6/3)، وقال عن آدم: "ونفخ في أنفه نسمة حياة، فصار آدم نفساً حياً" (التكوين 2/7).
2- الوحي الذي تأتي به الملائكة إلى الأنبياء ومنه: "داود قال بالروح القدس" (مرقس 12/36)، ومثله "وامتلأ زكريا أبوه من الروح القدس" (لوقا 1/67)، بطرس: " أيها الرجال الإخوة، كان ينبغي أن يتم هذا المكتوب الذي سبق الروح القدس فقاله بفم داود " (أعمال 1/16)، وقد سمى الله الأنبياء وما يأتون به من الوحي روح القدس فقال موبخاً لبني إسرائيل: " يا قساة الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان، أنتم دائماً تقاومون الروح القدس، كما كان آباؤكم كذلك أنتم، أيُّ الأنبياء لم يضطهده آباؤكم؟!" (أعمال 7/51).
3- كما يطلق على ما يعطيه الله من تأييد وفهم وحكمة لغير الأنبياء، وقد يكون بواسطة الملائكة وسواهم، ومنه قول فرعون لعبيده، وهو يبحث عن رجل حكيم: "هل نجد مثل هذا رجلاً فيه روح الله" (التكوين 41/38) وكذا " كان الرجل في أورشليم اسمه سمعان، وهذا الرجل كان باراً تقياً ينتظر تعزية إسرائيل، والروح القدس كان عليه" (لوقا 2/25)، وكذلك أيد روح القدس التلاميذ في اليوم الخمسين " فامتلأ الجميع من الروح القدس، وابتدؤوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا" (أعمال 2/4)، ومثله قول حجي: "روحي قائم في وسطكم. لا تخافوا" (حجي 2/5).
4- الرياح الشديدة، ومنه قول التوراة وهي تصف الريح المدمرة: "يبس العشب، ذبل الزهر، لأن روح الرب هب عليه" (إشعيا 40/7) ، وهو ينطبق على ما جاء في مقدمة سفر التكوين "وروح الله يرف على وجه الماء" (التكوين 1/1-2)، فإن في ترجمته لبساً أوهم هذا الخلط، فالنص كما ينقل الناقد الكبير اسبينوزا عن مفسري اليهود، يقصد منه رياح عظيمة أتت من عند الله فبددت ظلمات الغمر.
ونسبة الروح لله في هذين النصين نسبة تعظيم، لا تأليه كقوله "جبال الله" (المزمور 36/6)، وهي ليست أقانيم بالاتفاق.
لكن جميع المعاني التي ذكرناها قبلُ للروح القدس غير مرادة عند مؤلهي روح القدس، الذين لا يوافقون على كونه مجرد قوة أو تأثير أو ملاك من الله، فيقول ياسين منصور: "هو الأقنوم الثالوث في اللاهوت، وليس مجرد تأثير أو صفة أو قوة، بل هو ذات حقيقي، وشخص حي، وأقنوم متميز، ولكنه غير منفصل، وهو وحدة أقنومية غير أقنوم الأب وغير أقنوم الابن، وهو مساو لهما في السلطان والمقام، ومشترك وإياهما في جوهر واحد ولاهوت واحد"، وبالطبع هذه الذات التي يتحدثون عنها ليست ملاكاً من الملائكة، بل هي أحد أقانيم الإله.
وتتحدث الأسفار عن تجسدات الروح القدس، منها نزوله على شكل حمامة على المسيح وهو يصلي " نزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة" (لوقا 3/22)، فهل كانت تلك الحمامة إلهاً؟
وفي مرة أخرى أتى على شكل ألسنة نارية، وذلك حين حل على التلاميذ يوم الخمسين "وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة، وملأ البيت حيث كانوا جالسين، وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار، واستقرت في كل واحد منهم، وامتلأ الجميع من الروح القدس" (أعمال 2/1-4).
ويغمض النصارى الطرف عن النصوص التي صرحت بأن الروح القدس هو جبريل عليه السلام أو سواه من الملائكة ، فقد جاء الروح إلى كرنيليوس وبطرس، وهو ملاك " قال له الروح: هوذا ثلاثة رجال يطلبونك. لكن قم وانزل واذهب معهم غير مرتاب في شيء، لأني أنا قد أرسلتهم. فنزل بطرس إلى الرجال الذين أرسلوا إليه من قبل كرنيليوس .. فقالوا: إن كرنيليوس.. أوحي إليه بملاك مقدس أن يستدعيك إلى بيته، ويسمع منك كلاماً" (أعمال10/20-22)، فالملاك المقدس هو الروح الذي كلم بطرس، وهو الذي طلب من كرنيليوس أن يرسل رجاله إلى بطرس.
وعدو بني إسرائيل من الملائكة جبريل عليه السلام، فهو الروح القدس الذي خلص بني إسرائيل مراراً، ثم لما أصروا على كفرهم عذبهم وغضب عليهم، وتحول إلى عدو لهم، يقول إشعيا: " وملاك حضرته خلصهم. بمحبته ورأفته هو فكهم، ورفعهم وحملهم كل الأيام القديمة، ولكنهم تمردوا وأحزنوا روح قدسه، فتحول لهم عدواً، وهو حاربهم" (إشعيا 63/8-10).
وروح الله ليس اسماً خاصاً بجبريل، بل يطلق على غيره من الملائكة "ورأيت فإذا في وسط العرش والحيوانات الأربعة، وفي وسط الشيوخ خروف قائم كأنه مذبوح، له سبعة قرون وسبع أعين هي سبعة أرواح الله، المرسلة إلى كل الأرض" (الرؤيا 5/6)، فالأرواح التي رآها يوحنا ليست آلهة، وإلا تحول الثالوث النصراني إلى عاشور!!
وقد تكرر الحديث عن أرواح الله السبعة في سفر الرؤيا في موضعين آخرين، حيث قال: "ومن العرش يخرج بروق ورعود وأصوات، وأمام العرش سبعة مصابيح نار متّقدة هي سبعة أرواح الله " (الرؤيا 4/5)، ويقول: "واكتب إلى ملاك الكنيسة التي في ساردس. هذا يقوله الذي له سبعة أرواح الله، والسبعة الكواكب.. " (الرؤيا 3/1).
إن الروح القدس ليس بإله، ولو كان إلهاً لاستقل بالفعل بنفسه، لكنه لم يكن كذلك، يقول بطرس: "الروح القدس دفع بعض الناس أن يتكلموا بكلام من عند الله" (بطرس (2) 1/21) فلو كان الروح القدس إلهاً أزلياً مساوياً للآب في كل شيء لدفع الناس أن يتكلموا بكلام من عنده هو.
ومما يدفع ألوهيته أن النصوص تجعله هبة من الله يعطيها لأوليائه، كما قال المسيح: " فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالحري الآب الذي من السماء، يعطي الروح القدس للذين يسألونه " (لوقا 11/13).
ولو كان الروح القدس إلهاً لوجب القول بألوهية أولئك الذين يحل عليهم، فقد حل على كثيرين، منهم داود حيث "استوت روح الرب على داود" (ملوك (1)6/13)، وأيضاً "سمعان عليه روح القدس" (لوقا 2/25)، وحل الروح القدس على مريم " وقال لها: الروح القدس: يحل عليكِ، وقوة العلي تظللك" (لوقا 1/35) وأحبلها عيسى، فقد " وجدت حبلى من الروح القدس" (متى 1/18).
وكذا حل على التلاميذ " لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم، وتكونون لي شهوداً" (أعمال 1/8)، فصاروا يتكلمون بالروح القدس " فمتى ساقوكم ليسلموكم فلا تعتنوا من قبل بما تتكلمون ولا تهتموا، بل مهما أعطيتم في تلك الساعة فبذلك تكلموا، لأن لستم أنتم المتكلمين، بل الروح القدس " (مرقس 13/11) فهؤلاء جميعاً يستحقون العبادة لو كان الإله قد حل فيهم، وامتلأوا منه.
وأما ما يتعلق به النصارى على ألوهية روح القدس في قوله: "إن الله روح" (يوحنا 4/24)، إذ مقصود يوحنا أن الله روح، أي لا يرى، إذ ليس هو جسداً مادياً مكوناً من لحم وعظم، وقد قال لوقا ما يؤكد هذا الفهم: "والروح ليس له لحم أو عظام" (لوقا 24/39).
وهكذا يرى المحققون أن الروح القدس هو الآخر ليس بإله، وأن التثليث صياغة بشرية قامت بها المجامع بأهواء البابوات والأباطرة من غير أن تستند إلى دليل يؤكد أصالة هذا المعتقد الذي لم يعرفه الأنبياء ولم يذكره المسيح ولم يدركه الحواريون.
وقد صدقت الموسوعة الكاثوليكية الحديثة حين قالت: "إن صياغة الإله الواحد في ثلاثة أشخاص لم تنشأ موطدة وممكنة في حياة المسيحيين وعقيدة إيمانهم قبل نهاية القرن الرابع".

0 commentaires:

إرسال تعليق