المبحث الرابع
الحب والإخاء
المطلب الأول : الأُخوة مكان العصبية :
يقول آتيين دينيه:
"لقد دعا عيسى [عليه السلام] إلى المساواة والأخوة، أما محمد فوفق إلى تحقيق
المساواة والأخوة بين المؤمنين أثناء حياته"[1].
المساواة والأخوة بين المؤمنين أثناء حياته"[1].
فليس من الطبيعي ـ في اعتقاد رسول الله ـ أن يعيش الناس على هذه الأرض في شقاق و تمزق وتفرق، و قد أوجدهم الخالق سبحانه من أصل واحد، خلقهم جميعًا من آدم، أبيضهم وأسودهم، شرقيهم وغربيهم، عربيهم وعجميهم، غنيهم و فقيرهم ، بل إن أشد ما يتنافى مع الفطرة، ويتعارض مع العقل، أن يوحد الله عباده في الخَلق والمنشأ، ثم يتفرقون في المرجع والمصير. ولأجل هذا اتخذ الإسلام كل أساس وقاعدة تحمي هذا الكيان من الانشقاق والتصدع، وتمكنه من أداء مهمته على الوجه الأمثل ومن بين تلك القواعد : الإخاء.. الذي يمحو أمامه جميع الفوارق بين أفراد هذا الكيان ،و امتيازاتهم من نسب أو جاه أو مال ..
ويتحدث المفكر "وليم موير " عن هذا المبدأ الكبير في الإسلام – مبدأ الإخاء - ، فيقول :
"ومن عقيدة الإسلام أن الإنسان أخو الإنسان "[2] .
ويبين المفكر الكبير "برج " :" أن مبدأ الإخاء الإنساني هو أساس فلسفة الأخلاق الاجتماعية في الإسلام "[3] .
ويشير "فيليب حتي" إلى " أن إقامة الأخوة في الإسلام مكان العصبية الجاهلية (القائمة على الدم والقرابة) للبناء الاجتماعي كان - في الحقيقة - عملاً جريئًا جديدًا؛ قام به النبي العربي .."[4].
إن النبي r أسس الدولة الإسلامية الأولى، على قاعدة الإخاء الإسلامى ما بين الأوس والخزرج والمكيين المهاجرين، وأسس الدستور المدني الإسلامي الذي نظم العلاقات ما بين قوى الشعب، ونجح هذا الدستور في تحقيق التعايش والإخاء بين المسلمين وبعضهم، وبين المسلمين وغيرهم، وتطورت جوانب هذا التعايش مع قيام الدولة الإسلامية التي ضمت شعوباً وأُمماً مختلفة، حققت بينها الانسجام والإخوة بين أبناء الوطن الواحد، بعيداً عن العصبية العرقية أو التعصب الديني .
ومن أجل تحقيق الحب والإخاء بين فصائل الشعوب، اعترف الإسلام بصدق الرسالات السماوية السابقة .. يقول مارسيل بوازار[5]– في ذلك -:
" وقد فتح الإسلام الباب للتعايش على الصعيد الاجتماعي والعرقي حين اعترف بصدق الرسالات الإلهية المنزلة من قبل على بعض الشعوب ، وجعل المسلمين منحدرين من نسل مشترك مع اليهود والنصارى عبر إبراهيم ... ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ([6] .. "[7].
المطلب الثاني : لماذا نجح النبي في تحقيق الحب والإخاء ؟
يبين توماس آرنولد أن السبب في نجاح النبي في نشر قيم الحب والإخاء سواء بين الشعوب الإسلامية والقبائل والعشائر المختلفة، هو حسن الخلق والمعاملة الحسنة والجاذبية التي كان يتمتع بها رسول الله ، فيقول آرنولد:
".. إن المعاملة الحسنة التي تعودتها وفود العشائر المختلفة من النبي واهتمامه بالنظر في شكاياتهم، والحكمة التي كان يصلح بها ذات بينهم، والسياسة التي أوحت إليه بتخصيص قطع من الأرض مكافأة لكل من بادر إلى الوقوف في جانب الإسلام وإظهار العطف على المسلمين، كل ذلك جعل اسمه مألوفًا لديهم، كما جعل صيته ذائعًا في كافة أنحاء شبه الجزيرة.. سيدًا عظيمًا ورجلاً كريمًا. وكثيرًا ما كان يفد أحد أفراد القبيلة على النبي بالمدينة ثم يعود إلى قومه داعيًا إلى الإسلام جادًا في تحويل إخوانه إليه.."[8].
ولعل الفيلسوف إدوار مونته – هو الآخر - يبين السبب الأساس في قدرة النبي الكريم في نشر الحب والإخاء بين الناس، و هو ما عرف عن رسول الله" بخلوص النية والملاطفة وإنصافه في الحكم، ونزاهة التعبير عن الفكر والتحقق، وبالجملة كان محمد أزكى وأدين وأرحم عرب عصره، وأشدهم حفاظاً على الزمام فقد وجههم إلى حياة لم يحلموا بها من قبل، وأسس لهم دولة زمنية ودينية لا تزال إلى اليوم"[9].
وكلها عوامل وأسباب أدت إلى نجاح محمد في تحقيق الحب والإخاء بين فصائل وطوائف العرب .
وكان لمبادىء الحب والإخاء في الإسلام وأثرها على باقي الشعوب، في الشرق والغرب، أن حفرت عمقاً عميقاً في وجدانها.. تلك النزعة الإنسانية الخيرة ( الحب / الإخاء) التي ترفض التقسيم العرقي أو الطبقي.
ويتحدث "جواهر لال نهرو"[10] ، عن هذا الجانب، ممثلاً بنموذج الهند، فيقول :
" إن نظرية الأخوة الإسلامية ... التي كان المسلمون يؤمنون بها، ويعيشون فيها، أثرت في أذهان الهندوس تأثيرا عميقاً . وكان أكثر خضوعاً لهذا التأثير البؤساء الذين حَرَّم عليهم المجتمع الهندي المساواة والتمتع بالحقوق الإنسانية "[11] .
المطلب الثالث : نماذج تعاليمه :
لقد جعل النبي من الحب والإخاء في الإسلام عبادة رفيعة يُتقرب بها إلى الله تعالى، ويُستظل بها في ظل عرش الله يوم القيامة .. ومن جملة أحاديثه في ذلك :
أولاً : المسلمون المتآخون المتحابون كالجسد الواحد :
روى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عن رسول الله أنه قال :
" مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"[12].
ثانيًا: المسلمون المتآخون المتحابون كرجل واحد :
قال النبي : " الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ، إِنْ اشْتَكَى رَأْسُهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ"[13].
ثالثًا: المسلمون المتآخون المتحابون في ظلال الله :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : " إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ لِجَلَالِي ؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي ."[14] .
رابعًا: المسلمون المتآخون المتحابون وجبة لهم محبة الله :
عن معاذ بن جبل قال : سمعت رسول الله يقول :
" قال الله تعالى : وجبت محبتي للمتحابين فيّ والمتجالسين في والمتزاورين في والمتباذلين فيّ"[15].
خامسًا: المسلمون المتآخون المتحابون يغبطهم الأنبياء والشهداء :
قال النبي : " يقول الله تعالى : المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء"[16].
وعن أبي الدرداء قال : قال رسول الله " ليبعثن الله أقوامًا يوم القيامة في وجوههم النور، على منابر اللؤلؤ ، يغبطهم الناس، ليسوا بأنبياء ولا شهداء ". قال : فجثا أعرابي على ركبتيه، فقال : يا رسول الله حلهم لنا نعرفهم ! قال : " هم المتحابون في الله من قبائل شتى وبلاد شتى، يجتمعون على ذكر الله يذكرونه "[17].
هكذا رسّخ رسول الله قيم الحب والإخاء بين شعبه، ورسخها عملياً، فيرغبهم في الحب والإخاء وثوابهما، ويرهبهم من التباغض والشقاق وعواقبهما في الدنيا والآخرة .
إن هذا مظهر من مظاهر رحمة النبي ، فلقد نجح النبي في تحقيق الأخوة والحب بين الشعب، حتى أصبح أبناء الدولة في عهده كالجسد الواحد أوكالرجل الواحد ..
[1] آتيين دينيه: محمد رسول الله ، ص 323.
[2] وليم موير : حياة محمد، 80.
[3] انظر: أحمد أمين : التكامل في الإسلام ، ج 2، ص 101.
[4] فيليب حتى : الإسلام منهج حياة ، ص 19 ، 20.
[5] مفكر وقانونى فرنسى ، وله كتابات مشهورة عن الإسلام، أهمها : " إنسانية الإسلام"، و الإسلام اليوم". ويعد كتابه الشهير " إنسانية الإسلام"، علامة مضيئة في مجال الدراسات الغربية للإسلام، بما تميز به من موضوعية، وعمق، وحرص على اعتماد المراجع التي لا يأسرها التحيز والهوى، وريادته في تناول الجانب الأخلاقي في الإسلام.
[6] سورة الحجرات: الآية13 ، والاستشهاد بالآية من قبل مارسيل بوزار.
[7] مارسيل بوزار : إنسانية الإسلام ، 184-185.
[8] توماس آرنولد : الدعوة إلى الإسلام ص 55 .
[9] كلمة للفيلسوف الفرنسي إدوار مونته الذي ولد في بلدته لوكادا( 1817 ـ 1894 )، وقال هذه الكلمة في آخر كتابه (العرب).
[10] زعيم الهند الراحل ، وباني نهضتها الحديثة.
[11] انظر : محمد شريف الشيباني : الرسول في الدراسات الإستشراقية المنصفة، ص 192
[12] صحيح – رواه مسلم، برقم 4685.
[13] صحيح – رواه مسلم، برقم 4686
[14] صحيح – رواه مسلم، برقم 4655، ورواه مالك في الموطأ، برقم 1500
[15] صحيح - رواه مالك، برقم 1503، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم 5011.
[16] صحيح – رواه الترمذي، برقم 2312، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم 5011.
[17] صحيح - رواه الطبراني بإسناد حسن، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 1509
0 commentaires:
إرسال تعليق