تاسعا : كرامات مريم عليها السلام بعد موتها (الظهورات المريمية)


تاسعا : كرامات مريم عليها السلام بعد موتها (الظهورات المريمية)

1-المراد بالظهورات وعلتها

الظهورات جمع ظهور ، من الفعل ظهر أي بان ووضح ، والمريمية نسبة لمريم عليها السلام ، ويقصد بالظهورات المريمية ظهور مريم عليها السلام بعد موتها للبشر في صورة روح ،
فلا تكاد ترى نصرانيا إلا ويعتقد أن مريم العذراء ، أم الإله في اعتقادهم ، تظهر للمؤمنين يقظة ومناما ، وفوق الكنائس ، فتشفي المرضى ، وتداوي الجرحى ، وتنصح المؤمنين ، وتصنع المعجزات المختلفة.
وهذه الظهورات ليست محصورة في مريم وحدها ، وإنما هي ظاهرة موجودة في كل الأمم والأديان ، فهي موجودة عند الهندوس واليهود والنصارى والصوفية والشيعة ، وهو أمر ليس بالغريب حينما نجد أن الخط المشترك لهذه الأديان والفرق هو عدم وجود حجة أو برهان على صحة المذهب ، من هنا يظهر الخرافة والدجل في إثبات الحجة ، فكلما قل العلم ظهرت الخراف.
والسؤال الآن : هل يستدل بها على صحة هذه المذاهب والأديان أم أن الاستدلال يكون بالحجة والبرهان؟!
لا ريب أن الله عز وجل قد أقام الحجة على عباده من خلال أنبيائه الذين أيدهم بالمعجزات الدالة على صدق دعواهم ، فأقاموا الحجج الشرعية والعقلية على العباد ، فكان ذلك هو العلم الذي تعبد الله به العباد وألزمهم به ، فأمر الله عز وجل أنبياءه بالعلم والاجتهاد ونبذ التقليد الأعمى.
ويذهب النصارى إلى أن العلة في في هذه الظهورات إنما هي للهداية والإرشاد وبيان المعجزات وتثبيت المؤمنين على إيمانهم المسيحي ورفع الآلام عنهم ، ويستدلون بها على صحة ما هم عليه من اعتقاد ويقولون : ليس من المعقول أن الظهورات المريمية تقوم بها شياطين وليست مريم العذراء ، فهي قديسة لا يتمثل الشيطان بها.

2-التفسير العلمي للظهورات التي تم رؤيتها

ليس من المنطقي تكذيب هذه الظهورات التي نراها بين حين وآخر فوق الكنائس في مصر وغيرها من الدول التي تتواجد بها النصرانية ، وعدم التكذيب ليس بمسوغ لتصديق دعاوي النصارى في لزوم ما لا يلزم ، بل هو مسوغ للبحث من أوجه عدة تستلزم المضي فيها :
والعجيب أن من رأى العذراء لم يرها حقيقة وإنما رأى أضواء ، هذه الأضواء تعكس الصورة التي يتداولها النصارى ، امرأة ترتدي الزي اليهودي ، الزنار والحجاب اليهودي ، وتارة يكون على رأسها تاج كأنها ملكة ، وتارة تكتفي بالحجاب اليهودي.
فلا بد من البحث عن حقيقة هذه الأضواء علميا من حيث :
أولا : المصدر والتكوين : فما هو مصدر هذه الأضواء ؟ أهي السماء أم أنها نتاج بشري يقوم بالخداع البصري؟ كما ينبغي أن نعلم عن تكوين هذه الأنوار إن كانت ذات تكوين مختلف عن سائر الأشعة أم أنها مجرد أشعة عادية لخداع الناس؟!
ثانيا : المطابقة بين الشكل والحقيقة : فينبغي أن نعلم إن كانت هذه الأشكال هي الشكل الحقيقي المعلوم عن مريم عليها السلام؟.
فلا يوجد رسم لمريم عليها السلام ، وإن وجد رسم ، فينبغي أن تخضع هذه الرسمة للبحث العلمي بتقدير عمرها الزمني ، ومعرفة شخصية الرسام ، أكان من المعاصرين لها أم لا ؟ وإن كان من المعاصرين أهو من المهارة بمكان بحيث يتمكن من رسم صورة مطابقة لمريم العذراء؟!.
فقد تخيل كل رسام شكل العذراء وشكل المسيح فرسمه بما يدور بذهنه ، وبما يقربه من البيئة التي نشأ بها.
كذلك ينبغي علينا ألا ننفي وجود الإشكالية إن ادعى أحد أهل الأديان التي تعتمد هذه الظهورات في صحة المذهب أن هذه الأشكال لأولياء وقديسين لديهم في عقيدتهم ، فإن قال البوذيون هذه الأنوار لبوذا فما الرد عليه ؟! ولماذا ليس المسيح؟! وألف اعتراض واعتراض ، لأن باب الخرافة قد فتح ، ولا يسده إلا قمعه بالأدلة الشرعية التي تستخدم العقل كوزير في الفهم.
كما ينبغي ألا نطرح احتمال الكذب في مثل هذه الدعاوي طالما أنن لم نتحقق علميا منها ، فلماذا لا تكون هذه الأضواء خدعة باستخدام المؤثرات البصرية كما يستخدمه السحرة من أجل خداع البسطاء من أبناء هذه العقيدة ، وذلك للمأكلة والتربح من بقاء هؤلاء الناس على عقيدتهم ، فالعقيدة النصرانية تبيح الكذب من أجل تدعيم الحجة وإثبات المعتقد ، يقول بولس : (فانه أن كان صدق الله قد ازداد بكذبي لمجده فلماذا ادان انا بعد كخاطئ) [1].
وبفرض أن ثبت بعد التحقيق أنها أنوار سماوية على شكل العذراء ، فماذا سيفيد إن أثبتت الأدلة الشرعية عدم صلاحية هذه الأفعال للاستدلال على صحة العقيدة والمذهب ، وهذا ما سنبينه في التفسير الشرعي لهذه الظهورات.

3-التفسير الشرعي للظهورات التي تم رؤيتها

لا ريب أن الشيطان إن أراد أن يضل الخلق فإنه في الغالب يتمثل في أشكال الصالحين ليلبس الحق بالباطل على أهل الحق ، فلو أنه تمثل في شكل العصاة أو المجرمين فإن مخالفتهم معلومة للجميع بما لا يدع مجالا للريبة ، ولو تمثل الشيطان بهم لانصرف عنه المؤمنين ، فهذا هو هدفه : إضلال المؤمنين بهؤلاء الصالحين الذين يعتقدون صلاحهم وتقواهم.
كذلك فإن الكتاب المقدس يذكر أن الأموات لا يملكون لأنفسهم شيئاً في قوله : (لان الاحياء يعلمون انهم سيموتون اما الموتى فلا يعلمون شيئا وليس لهم اجر بعد لان ذكرهم نسي)[2].
كما يذكر أن الأموات قد انقطع عملهم بحسب الكتاب المقدس (ليس الاموات يسبحون الرب ولا من ينحدر الى ارض السكوت) [3].
فكيف يأتي بعد ذلك من يقول أنهم يعلمون كل شيء ويسمعون الناس ويغيثون المستغيثين ، ويشفون المرضى ، ويداوون الجرحى ، ويصنعون ما لم يستطيعوا صنعه حال حياتهم كالطير في الهواء والمشي على الماء ، فهل كانت مريم تصنع المعجزات كالطير في السماء وشفاء المرضى في حال حياتها؟! لا ريب لا ، وما ذكرناه من الأدلة كاف لنقض كل هذه الدعاوي.
وبالفرض الجدلي الذي يطرح نفسه قائلا : ماذا إن كانت هذه الظهورات هي أنوار سماوية على شكل العذراء مع ثبوت الدليل على ذلك ، هل يدلنا ذلك على صحة العقيدة النصرانية وفق ما يطرحه الكتاب المقدس من أدلة؟
الجواب الذي لا مرية فيه : لا.
فقد ورد في الإنجيل التحذير من الاعتماد على هذه الآيات والعجائب على صحة الاعتقاد من وجهين :
الأول : نهي العهد القديم عن اتباع هذه الآيات ومخالفة الدليل الشرعي
فقد ورد في الكتاب المقدس أيضا أنه من الممكن أن تكون هذه الظهورات ظهورات حقيقية ، لكنها شيطانية ، وعلتها امتحان المؤمنين في الثبوت على الحق وتوحيد الله عز وجل وعدم اتباع آلهة أخرى : (و لو حدثت الاية او الاعجوبة التي كلمك عنها قائلا لنذهب وراء الهة اخرى لم تعرفها ونعبدها * فلا تسمع لكلام ذلك النبي او الحالم ذلك الحلم لان الرب الهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب الهكم من كل قلوبكم ومن كل انفسكم *وراء الرب الهكم تسيرون واياه تتقون ووصاياه تحفظون وصوته تسمعون واياه تعبدون وبه تلتصقون)[4].
الثاني : نهي المسيح عن الاعتماد عليها
ويقول المسيح في إمكانية أن يكون للمضلين آيات : (لانه سيقوم مسحاء كذبة وانبياء كذبة ويعطون ايات عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو امكن المختارين ايضا)[5] ، فماذا سيفعل هؤلاء مع المسحاء الكذبة ، كالمسيخ الدجال مثلا ، لا ريب أنهم سيعتقدون ألوهيته وربوبيته.
الثالث : نهي بولس-المؤسس الحقيقي للمسيحية-عن الاعتماد عليها
فبولس يؤكد أن الشيطان قد يغير شكله إلى شكل الملائكة ، وبالتالي قدرته على التشكل في صور الأولياء والصالحين ، ففي رسالة كورنثوس الثانية يقول بولس : (و لا عجب لان الشيطان نفسه يغير شكله الى شبه ملاك نور )[6].
فلماذا يمكن الجزم بأمثال هذه العجائب كآية للرحمن ، ولا يمكن إثباتها كخدعة من الشيطان رغم اعتراف الإنجيل بإمكان ذلك؟! لا ريب أن المنهج المتبع في الاستدلال منهج زيغ وهوى يسعى لإثبات العقيدة دون دليل.
إن أهل العقل السليم لا بد لهم من التفكر في أمثال هذه العقائد المحدثة ، ولا بد من عدة تساؤلات تنقض هذه الظهورات من أساسها ، ولو كان لهذه الظهورات حقيقة للزم ما يلي :
1-            إن كان ظهورها للهداية والإرشاد فلماذا لا تظهر للمسلمين لهدايتهم للدين الحق وإقامة الحجة عليهم حسب عقيدتكم؟!
2-            لماذا لم تظهر للنصارى في المجامع التي قد فرقت النصارى من أجل جمع كلمتهم وتجنيبهم للفرقة والشتات والانحراف؟!
3-            لماذا لا تظهر لجمع كلمة طوائف النصرانية وردهم للصواب في خلافاتهم العقدية ، خاصة البروتستانت الذين ينكرون ظهورها ، فلا يمكن لها-مريم- أن تكتفي بمجرد الظهور فوق أسطح الكنائس التي تعتقد بظهورها ، فذلك لا ثمرة له ، بل لا بد أن تظهر لمن لا يعتقد بها لتبين لهم الحق وتدحض الباطل.
4-            لماذا لا تظهر فوق المساجد ليهتدي المسلمين كما ظهرت للنصارى فوق الكنائس؟! ألا تحب مريم العذراء هداية المسلمين الذين أحبوها في دينهم ، وبرأها الله من فرية اليهود فحملوا هم لواء الذب عنها؟! ألا تعلم العذراء أن المسلمون جميعا يتقربون بحبها لله؟! ألا تعلم أن الله قد خلد ذكرها في كتابه بوضع سورة تحمل اسمها وقصتها هي وولدها كاملة؟!
5-            ولماذا بدأ ظهور العذراء ومعجزاتها بعد مماتها فقط وهى التى لم يكن لها أى معجزه أو أى شيئ خارق للعاده طوال حياتها غير إنها حبلت دون رجل فهى لم تشف مريض ولم تحيى ميت ولم تبرء أكمه ؟!
6-            وهل من اللائق أن يرسل الإله أمه ولا يأتى هو كما جاء في حادثة التجسد لفداء بشريته؟!.
فالحق الذي لا مرية فيه أنه كلما ضعفت الحجج والبراهين ، وقل العلم واليقين ، ظهرت الخرافات والبدع ، فلم يرد عن حياة مريم أنها كانت تظهر للناس وتشفى مرضهم وتداوى جراحهم وتبرئ الأكمه والأبرص ، فكيف يحدث ذلك بعد مماتها؟!
فمن مصلحة الشيطان في سعيه لتضليل العالم أجمع أن يجذب الأنظار إلى شخصية مريم ابنة عمران رضي الله عنها ، وذلك لأنها شخصية مُكرّمة لدى النصارى جميعا بكل طوائفهم ، والمسلمين أيضا ، وللأسف فقد نجح الشيطان في هذه المهمة بجعله مريم عليها السلام وسيطة أخرى بالإضافة إلى الوسيط المزعوم يسوع المسيح بين الله والناس ، فأصبح يطلق عليها لقب "الشريكة في الشفاعة" ، وصار ذلك بمثابة العبادة التي نهى الله عنها ، ويسأل فيها عيسى في الآخرة ، قال تعالى : (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)[7]

4-تكذيب الكنيسة للظهورات

ورغم أن الأنبا شنودة بطريرك الكرازة المرقسية قد كذب بعض هذه الظهورات ، وكذلك الأنبا بيشوي الرجل الثاني في الكنيسة المصرية ، إلا أن العوام منهم مصرون على إثباتها لأنهم لا يملكون الحجة والبرهان ، وهذا ما يفعله عندنا غلاة المتصوفة في الدين الإسلامي ، فإنه كلما قل العلم والبيان ، وضعفت الحجة والبرهان ، ظهرت الخرافات والبدع وسعى كل فريق لتأييد قوله بشتى الوسائل الخرافية ، وهذا في كل ملة ودين على غير طريق الجادة.


[1] - رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية(3: 7)
[2] - سفر الجامعة(9: 5)
[3] - سفر المزامير(115: 17)
[4] - سفر التثنية(13: 2-4)
[5] -متى (24: 24)
[6] -رسالة كورنثوس الثانية (11: 14)
[7] -المائدة  (116)

0 commentaires:

إرسال تعليق