مقدمة -2 - تأملات في الرسالة والرسول



تأملات في الرسالة والرسول
بقلم فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد إدريس الطعان[1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 }الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *  اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ * { آمين .

والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي الصادق الأمين  وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد :يشعر الكاتب بالضآلة حين ينوي الكتابة عن سيد البشر محمد رسول الله r ، لأنه لا يجد في قاموسه العبارات التي تترجم الشعور بأمانة للقارئ ، يكفيه أن ربّه عز وجل وصفه بقوله :
 }وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ {[ سورة القلم آية : 4].
إن هذه الجملة تتعاقب فيها كما هو واضح - لمن يتذوق لغة العرب - عناصر المدح والثناء بإلحاح شديد .
كما يقف الكاتب حائراً وهو يتأمل في قوله عز وجل:
 } وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ  { [ سورة الأنبياء آية 107 ]
فهو عز وجل يحصر رسالة المصطفى r في الرحمة العالمية ، الرحمة الشاملة ، فهل تبقى أية قيمة لحديث البشر بعد هذا الثناء الرباني والتوجيه الرحماني ؟!
لقد كان قلبه يفيض بالرحمة مذ كان طفلاً كيف لا وقد غسلته الملائكة الكرام بها - أي بالرحمة -  يوم كان يرعى الأغنام مع أبناء حليمة ! . ولقد رقق اليتم قلبه إذ وُلد يتيم الأب فلم يحظ بحنان الأبوة ، وحين ذهب ذات يوم مع أمه لزيارة قبر أبيه ماتت أمه في الطريق فغسلت دموع أجفانه صفحات قلبه  .
وهذبه الفقر حين عاش مُعدماً يرعى الغنم على قراريط لأهل مكة، فعاش حياة الفقراء واليتامى، يشعر بمشاعرهم ويتألم بآلامهم ، فأكسبه ذلك حساً مرهفاً وشعوراً نبيلاً دفعه لمباشرة العمل بالتجارة، حتى لا يكون عبئاً ثقيلاً على عمه أبي طالب ، فخالط الناس وعاشر أصنافهم ، وخبر أخلاقهم ، وأخذ وأعطى بيعاً وشراء ليعيش الواقع كما هو بحلوه ومره، برخائه وشدته .
ولكي لا ينجرف في تيار الواقع حَبّب الله جل وعلا إليه الخلاء ليعتزل الناس ، ويخلو بنفسه يراجعها يحاسبها ، ويعتني بقلبه تزكية وتطهيراً ، ويتجه إلى ربه عز وجل تعبداً وتلقياً وتفكيراً .
ولم يكن ذلك صدفة بل كان تقديراً إلهياً، وتدبيراً ربانياً لرجل اختاره الباري جل شانه لأعظم مهمة على مر الدهور، مهمة الرسالة الخاتمة ، والرحمة الشاملة .
إنها مهمة ذات وجهين :
الأول : الصلة مع الله عز وجل ، والانخراط في عالم الملكوت، والانسلاخ من عالم الملك والشهادة، والتلقي عن الله تبارك وتعالى .
الثاني : التواصل مع الناس على سبيل البلاغ والبيان والهداية .
إنها مهمة عظيمة وخطيرة، إنها مفترق الطرق بين عالم الشهادة وعالم الغيب ، عالم الدنيا وعالم الآخرة ، إنها صلة الوصل بين عالمين .
ولذلك هيأه الله عز وجل ورباه لتحمل هذه المهمة، فاتصل بالناس، وعرك الحياة بمرها ومرارها ، وخلا بربه عز وجل ليصفو قلبه من أدران الكون، فيتهيأ عقله وتستعد روحه للتلقي عن المكوّن عز وجل .
إن أصعب مهمة يعاني منها الدعاة اليوم هي الانسلاخ من واقعهم العاجي والانخراط في الواقع العادي للناس . يعيش الداعية معاني الإيمان والهداية والتقوى فتصفو روحه وتميل إلى الاكتفاء بربها عز وجل خلوة وعبادة وتبتلاً ، فإذا ما شعر بالمسؤولية تجاه الناس تبرمت روحه وضاقت، لأنه يريد العودة بها من جديد إلى عالم الأذى والهوى.
هذا على مستوى الدعاة المخلصين من آحاد الأمة فكيف بالمصطفى؟! إن حالته من أشق الحالات ، لأنها تتضمن الانسلاخ من البشرية إلى الملائكية لتلقي الوحي، ثم الأوب من جديد إلى عالم البشر ، لتحمل مسؤولية كبرى ! ، وهل يرضى الإنسان الذي يدخل الجنة ويعيش نعيمها وسعادتها أن يعود إلى دنيا الهموم والأحزان ؟!
إن أمر الانتقال من عالم الشهادة إلى عالم الغيب أو من عالم الملكوت إلى عالم الملك أشق – فيما أحسب -  مما نتصور إذا ما نظرنا إلى الأمر من زاوية الأسباب فقط.
ومن هنا كانت رسالة المصطفى r هدفها المحوري هو الارتقاء بالبشرية، والصعود بالإنسانية من المستوى البهيمي أولاً إلى المستوى الإنساني ، ثم من أدنى درجة في الإنسانية إلى أعلى درجة فيها حيث تبدأ الرتبة الملائكية .
إذن فالإنسانية التائهة والبشرية الضائعة وجدت ضالتها في بعثة النبي r من حيث السمو والرفعة والأمان، لأن الهدف هو الإنسان والغاية هي سعادته ونجاته.
وإذا ما نظرنا في جوانب هذه البعثة السمحاء سنجد ذلك متجلياً في مختلف الأوامر والنواهي ،سواء القضايا العقدية أو الوصايا الأخلاقية أو المسـائل التشريعية .
فللإنسان تساؤلاته الكبرى منذ أن ولد على ظهر هذه الأرض : من أنا ؟ ومن أين أتيت ؟ وكيف أتيت ؟ ولماذا أتيت ؟ وإلى أين المصير ؟ وما الغاية ؟ ولقد تتابع الوحي الإلهي تترا كما قال عز وجل: }ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ { [سورة المؤمنون آية 44 ] .
لكي يطمئن الإنسان ويريحه، ويحل له ألغاز الوجود، وينقذه من عذاب التساؤلات، وظلام الحيرة ، وقلق الشك، وكلما ابتعد الإنسان عن منارة الوحي هاجمته شكوكه، وأقبلت عليه وساوسه، واستبد به شياطين الإنس والجن، وأحدق به أنصار الشر والفساد . فأراد الله عز وجل لهذه البشرية الهائمة رسالة خالدة، تحمل أجوبة خالدة، تظل ماثلة أمام العقول، وملامسة شغاف القلوب، فكانت بعثة المصطفى r ومعجزته الخالدة المشرقة في القرآن الكريم .
ومن نعم الله عز وجل ورحمته بهذه الأمة أنه تفضل عليها بالقرآن ومثله معه )ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ( ([2] ) ليكون بياناً ساطعاً، ونوراً مشرقاً، يسد الباب أمام عشاق الأوهام، وخفافيش الظلام، الذين ينشطون لأشكلة الواضحات وتعويص الهينات .  فجاءت بحمد الله عز وجل :
-  رسالة كاملة شاملة } الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا { [ سورة المائدة آية 3 ] .
غطت كل جوانب الحياة العقدية والتشريعية والأخلاقية، وقام جهابذة العلم فيها بما يشبه المعجزة في التعليم والبيان ، والتأليف والإبداع في الأصول والفقه والحديث والتفسير والكلام ، وكل ذلك ظل دائماً مشدوداً إلى الأصلين العظيمين الكتاب والسنة.
-       هادية منيرة مصحّحة مسدّدة } يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا { [ سورة النساء آية 174 ]  }يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {[سورة المائدة آية 15 – 16 ] تخرج الناس من الظلمات إلى النور : من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ومن ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ، ومن ظلمة المعصية إلى نور الطاعة ، ومن ظلمة الشك إلى نور اليقين، ومن ظلمة الخوف إلى نور الرجاء والأمان، ومن ظلمة الجور إلى نور العدل والقسط ، ومن ظلمة العصبية والجاهلية إلى نور الأخوة الإنسانية .
- واضحة بينة: "  بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك " ([3] )  لا لبس فيها ولا غموض، ولا رموز ولا كتمان ، إنها أجلى من الشمس في رابعة النهار غير أن الأعشى لا يراها والأعمى لا يستفيد من نورها .
-  ليس فيها حرج :  }وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ { [ سورة الحج آية 78 ]  
-       سهلة يسيرة : }لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا {[ سورة البقرة آية 286 ] "" إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه .. " ([4] )  . "" يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا "" ([5] ) . 
- فيها تنوع وثراء في تشريعاتها وتوجيهاتها، تمد الوجود الواقعي والحياتي دائماً بمعطياتها ونصائحها دون عسف أو غمط للواقع، ودون إهمال أو تفريط به .
-       وفيها تنوع في خطابها بحسب أصناف الناس وقدراتهم وطاقاتهم من تقاعس أو نشاط، وقوة أو ضعف ، فتشجع القوي والنشيط وتحثه على المزيد "" المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"" ([6] )    ولكنها لا تقنط الضعيف والفقير "" ففي كل خير ""  - وتراعي حال المريض والمحرج والمضطر }لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ { [سورة التوبة آية : 91 ]}لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ{[ سورة النور آية : 61 ] }  فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {[ سورة البقرة آية 173 ]
-       ولا تؤيس العاصي والمخطئ بل تدعوه إلى التوبة }وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ { [سورة النور آية 31 ] } إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ { [ سورة البقرة آية : 160].

      "" التائب من الذنب كمن .."" ([7] )  .

-       ولا تقطع أمل المنحرف والمسرف على نفسه بل تفتح له نافذة من الرجاء والأمل } قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ { [ سورة الزمر آية 53 ] لاحظ كيف يصف المسرفين بأنهم عباده ويضيفهم إلى نفسه سبحانه وتعالى ، ثم ينهاهم عن القنوط واليأس من رحمة الله ، ثم يعدهم بمغفرة الذنوب جميعاً دون استثناء ، ثم يعقب ذلك بوصف نفسه جل وعلا بالمغفرة والرحمة . ثم تأمل في هذه الآية كم فيها من معاني الرجاء للعصاة والمذنبين } وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ { [ سورة آل عمران آية 135 ]
-       كما أنها بعدلها وإنصافها لا تسوّي بين الكسول المتقاعس والنشيط الجاد، ولا بين المهمل المقصر وصاحب الهمة والعزيمة ، بل تفتح الباب لكل واحد منهما للرقي والسمو ، وذلك عبر المراتب الثلاث : الإسلام والإيمان والإحسان .
فمن أراد أن يرقى فدونه الجبل لا أحد يمنعه، ودونه القمة فليتسلق إليها لا أحد يدفعه .} وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا {[ سورة الإسراء آية 19 ] فمن يعمل ويسعى ويجاهد ليس كمن ينام ويتقاعس  } وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ { [سورة العنكبوت آية 6  وليس الناس على درجة واحدة من الهمة والعزيمة والقصد } ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ { [ سورة فاطر آية 32 ]
- والإسلام طَموح ويعلم أبناءه الطموح والهمة العالية "" يقال لقارئ القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ..." ([8] )  ويربط الرقيّ بالعمل ،بل وبإتقان العمل أيضاً، ويدعو أبناءه إلى طلب القمة والسعي إليها "" إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى "" ([9] )
هذه رسالة محمد r ، رسالة الإنسان ، رسالة السعادة ، رسالة الحضارة رسالة العدالة ، رسالة الرحمة . لا تنظر إليها من زاوية من الزوايا إلا وتجد فيها التشوّف إلى سعادة الإنسان وراحته ،  ومنفعته وقد يدرك الإنسان أبعاد هذه المنفعة والسعادة وقد تخفى عنه فلا يلاحظها إلا بعد حين .
إنها رسالة تراعي سر الخلق في كيان الإنسان، لأنها تنزيل من العليم الخبير } أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ {[ سورة الملك آية 14 ]  فالإنسان مكوّن من جسد ونفسٍ وعقل وقلب وروح ، هذه هي كينونة الإنسان، وكل جزءٍ من هذه الكينونة له متطلباته وحاجاته، له غذاؤه الذي يليق به ، فجاءت رسالة الإسلام خاتمة الرسائل متوائمة مع متطلبات هذه الكينونة، تقيم التوازن في تلبية حاجاتها، وإن أي خلل في تلبية أجزاء هذه الكينونة يؤدي إلى شقاء الإنسان، فللروح غذاء العبادة والتبتل، وللجسد غذاء الطعام والشراب،وللنفس الطيبات من الرزق، وللعقل العلم والمعرفة ، وللقلب التفكر والتدبر ، وإذا ما طغى جانب من هذه الجوانب على غيره فإنه يؤدي إلى اختلال في توازن الإنسان ، وانفراط في نظامه فيشقى الإنسان } وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى {[ سورة طه آية 124 ] .
فجاءت رسالة محمد r رسالة الرحمة لتحفظ نظام الكيان الإنساني من الانفراط، وعقد الكينونة من الاختلال، فأعطت كل ذي حق حقه "" فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا..."" ([10] )    ورفضت نظام الترهبن والانسحاب من الحياة "" أما إني لأخشاكم لله وأتقاكم له وإني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني "" ([11] )   .
فكانت تشريعاً معجزاً بديعاً، تستطيع أن تقول وأنت واثق من نفسك : إن نظام الرسالة المحمدية الكوني ينسجم تماماً مع الكون، وتتطابق بشكلٍ رائع آيات القرآن مع آيات الكون، كذلك إن نظام الرسالة التشريعي يتطابق بشكلٍ عجيب مع نظام الكينونة الإنسانية فرداً ومجتمعاً    } أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ {[ سورة الملك آية 14 ]  .
هذه رسالة الإسلام ، رسالة الإنسان ، رسالة الرحمة الإلهية ، وفي كثير من الأحيان يجهل الإنسان بدوافع من رغباته وأهوائه كم هو محظوظ، لأنه يتقلب في ربيع النعمة الإلهية ، والبركة المحمدية فيعرض الإنسان فرداً أو جماعة عن  الاحتماء بمظلة الإسلام ، ويهيم ملاحقاً شهواته في فيافي الأوهام، ومفاوز الآثام ولا يكتشف ضلاله وضياعه إلا بعد فوات الأوان ، وكان يكفي الإنسان لكي يقي نفسه هذا الضلال والتيه أن يثق بربه عز وجل، ويقبل رسالته الهادية، ويقبل رسوله المبلّغ المبشّر، ويعتصم بحبله المتين ،ونوره المبين، فيوفر على نفسه ألواناً من الضنك وأشكالاً من الخيبة في مسيرة الحياة .
وهذا ما عمل وجاهد من أجله الأنبياء جميعاً عبر الأحقاب الزمنية المتوالية، ثم جاء خاتمهم المصطفى r ليكمل البناء وينير الطريق وينشر العدل ويتمم الهداية .
فكان r المثل الأعلى للبشرية في الأخلاق والأعمال، وكان الأسوة الحسنة لمن أراد أن يرقى في مدارج الكمال، وكان النموذج المتألق في التأنق والتحضر والجمال، وكان العلم الباسق في الرزانة والرصانة والثقة والاتزان والاعتدال r.
ولم يكن منفصلاً عن الناس يعيش في برجه العاجي، بل كان يأكل مما يأكلون ويشرب مما يشربون وينام كما ينامون .

"" ينام على الحصير فيؤثر في جنبه حتى يبكي سيدنا عمر تأثراً على حال رسول الله صلى الله عليه وسلم "" ([12] )  

"" وتمر الليالي والشهور ولا يوقد في بيته نار "" ([13] )  أي لا يوجد ما يطبخونه.
"" ويشد الحجر على بطنه من الجوع ""  ([14] )   
"" ويمر على نسائه فلا يجد طعاماً فيقول إني صائم ""  ([15] )   .
"" ويطوي الأيام ثم إذا وجد الخل أكل منه فحمد الله ثم قال نعم الإدام الخل "" . ([16] )   
 }َقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ...{ [ سورة التوبة آية 128 ] . أجل إنه r من أنفُسنا ومن أنفَسنا، حريص علينا ،شفوق بنا ،يحزنه عصياننا وانحرافنا، رؤوف رحيم بنا ، يقف على الصراط ويقول :

" رب سلم رب سلم "" ([17] ) ويطيل السجود والدعاء والتبتل يدعو لأمته بالنجاة والسعادة والهداية .ويوم القيامة يسجد تحت العرش فلا يرفع رأسه حتى يقال له : إرفع رأسك ، وسل تعط ، واشفع تشفع ! فيقول : يارب أمتي . ([18] )  لقد جعل همه هماً واحداً هو رضوان الله جل شأنه ، وتفرع عن هذا الهم حرصه الشديد على أمته رحمة ورأفة ورجاءً وهذا ما يعبر عنه هذا الحديث الشريف "" حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ : « إِنَّمَا مَثَلِى وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا ، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِى تَقَعُ فِى النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا ، فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا ، فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ ، وَأَنْتُمْ تَقْتَحِمُونَ فِيهَا "" .  ([19] )   إن غايته الكبرى هي نجاة أمته، نجاتها في الدنيا من دار الغرور ، وفي الآخرة من العذاب الحرور ، فهو لم يكن يخشى علينا الفقر، بل كان خوفه علينا من الدنيا وانبساطها وإغرائها أشد كما قال للأنصار ذات يوم : « فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ ، فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ ، وَلَكِنِّى أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَكُمْ ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا ، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ » . ([20] )   

وقال لسيدنا علي يوم خيبر : "" فَوَاللَّهِ لأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ »  ([21] )    لأنه سيكون سبباً في إنقاذ رجل - بل ربما أسرة ممتدة إلى يوم القيامة - من الشقاء الأبدي والجحيم السرمدي .
لقد كانت رسالته r أشبه بالمظلة الباردة في اليوم القائظ ، وأشبه بالركن الدافئ في البرد القارس ، وأشبه بالغيث الصيّب في في السنة الجائحة القاحلة، وهكذا شبه رسول الله r بعثته المباركة فقال : « إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى إِنَّمَا هِىَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِى دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِى اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ ». ([22] )   أجل إنه r كالغيث الهامع لهذه البشرية الشاخصة إلى السماء ، أحيا الله به قلوباً غلفاً ، وأعيناً عمياً ، وآذاناً صماً ، بل أحيا به الباري عز وجل أمة كانت في مجاهيل النسيان ، وبراثن الجهل، ومخالب الشتات والفرقة، فجعل منها أمة محورية بين الأمم ، وحضارة مركزية بين الحضارات، أقامت راية السماحة والمحبة ، ونصبت ميزان العدل والمساوة ، وأنارت دروب العلم والمعرفة فكانت مثالاً يُحتذى ونبراساً يقتدى .
هذه رسالة محمد r  ذلكم الطفل اليتيم الذي نشأ وترعرع في ربوع مكة يرعى أغنامها ، ويراقب أحلامها ، ويعايش شبابها، ويرافق تجارها، ويخالط زعماءها، ويحضر مجالسها وأحلافها – حلف الفضول – ويشارك في حروبها – حرب الفجار – فكان مثالاً للرجولة ، وعنواناً للأخلاق، ونبراساً للصدق والأمانة، فاستحق بجدارة لقب الصادق الأمين من أعدائه وخصومه قبل أقربائه وأصدقائه . فتهيأ لتحمل المسؤولية العظمى بأن يكون رسولاً للناس أجمعين، ورحمة مهداة للعالمين، ومبلغاً لآيات الوحي المبين .

فكان  rبإزاء هذه النعمة الكبرى عليه ، وهذا الفضل الرباني العظيم } وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا {[ سورة النساء آية 113 ] لا يرى نفسه إلا عبداً لله عز وجل "" يجوع يوماً فيصبر ويدعو ويتضرع إلى ربه عز وجل ، ويشبع يوماً فيشكر ربه ويحمده  " ([23] )    يرجو رحمة الله ويخاف عقابه سبحانه وتعالى أليس هو القائل صلى الله عليه وسلم : « لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ » . قَالُوا وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « لاَ ، وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِى اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ »  ([24] ) .

وبرغم ما أكرمه الله عز وجل به من النصر العزيز، والفتح المبين لم يشمخ بأنفه إلى السحاب كما يفعل القادة عادة ، ولم يصدع رؤوس الناس بعظمته وانتصاراته كما يفعلون عادة، ولم يُنكّل بأعدائه وخصومه الذين آذوه وطردوه وقتلوا أصحابه وأحبابه، بل قال كلمته المشهورة التي ينبغي  أن تُكتب برؤوس الأبر على آماق البصر، وبماء الذهب على شغاف القلب، قال r "" اذهبوا فأنتم الطلقاء ""([25] )   لمن ؟!
لمن طردوه وآذوه أشد الأذى، وقاتلوه أشد القتال، وتكالبوا عليه، وألّبوا عليه العرب، وقتلوا أعز الناس على قلبه ! قال لهم : اذهبوا فأنتم الطلقاء ! .
يدخل الفاتحون المنتصرون عادة إلى البلدان المهزومة بالزغاريد والشموخ والأبهة والعظمة ، فكيف دخل المصطفى r مكة المكرمة ؟
دخل وهو يركب فرسه متواضعاً متخشعاً لله عز وجل، يترنم بسورة الفتح   ويتطلع إلى السماء شاكراً لربه عز وجل، ومستمطراً رحمته وكرمه .
إن حالة دخوله r إلى مكة فاتحاً منتصراً وحوله كتيبته الخضراء ، هذه الحالة من التواضع والتذلل في مثل هذا الموطن الذي يدعو إلى الزهو والتعاظم، لهي رسالة إلى كل عقل حر ، وقلب حي ، وإنسان صادق في بحثه عن الحقيقة تخبره عن حقيقة هذا الرجل من هو ؟! أهو طالب ملك ؟ ها هو الملك بين يديه فلماذا لا يتعاظم به؟ أهو رائد دنيا وعظمة ؟ ها هي الدنيا والعظمة تتضاءل بين يديه فلماذا لا يمتلكها ؟ أم هو نبي مرسل يرجو رحمة ربه ويخاف عذابه ويبتغي رضوانه ؟
أجل لقد اقترب منه رجل أعرابي فرأى حوله جنده وجيشه غاطسون في الحديد، فأخذته رعدة من الخوف فهدأ النبي r من روعه وقال له : ياأخا العرب إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة ([26] )   !
أجل إنه r في هذه اللحظة الحاسمة بعد عشر سنوات من الجهاد والحروب ها هي مكة بين يديه ، وأهلها طوع أمره، وعتاتها وطغاتها في قبضته، إنها صورة رائعة تدعو إلى التطاول والكبرياء، وتغري بالانتقام، ولكنه  rوقد أدّبه ربه عز وجل فأحسن تأديبه، تذكّر أن هذا فضل من الله عز وجل، وكرم وتوفيق ونصر منه سبحانه وتعالى، ثم عاد مباشرة بذاكرته إلى الأيام الخوالي، يوم كان طفلاً يتيماً فقيراً مُعدما،ً يوم كانوا يرشون التراب في وجهه، يوم كان يرعى الأغنام، يوم الطائف، يوم الجزور، يوم الحصار والجوع، ثم توقف عند صورة مؤثرة هي: يوم كان يأكل القديد مع أمه بمكة !! أجل ياأخا العرب فأنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة ! .
في وسط البهجة والانتصار، وفي وسط المجد والفخار، وفي وسط العزة والاقتدار، يتذكر ويُذكّر النبي rبحالة ضعفه وفقره لينفعل مع جيشه وجنده والناس جميعاً بالشكر لله عز جل ، فكل ما هو فيه الآن هو محض فضل وإنعام من الله جل وعلا.
ولم يستطع بعض أصحابه أن يئد حالة الزهو والفخر في كيانه، فقال وهو يمر على بعض سادة قريش الواجمين المنكسرين : اليوم يوم الملحمة، ونُقل ذلك له r فقال : بل اليوم يوم المرحمة ([27] )   ، ونزع اللواء من صاحبه وأعطاه لابنه – لابن صاحب اللواء -  وهنا تتجلى رحمة النبي r وسياسته في  إصلاح الأخطاء، وتأليف القلوب ، وتضميد الجراح ، وتنظيف الصدور ، وتطييب الخواطر .
إنه r قد كف نفسه عن شهوة السلطان والملك، وغرور القوة والتمكين، ورغبة التشفي والانتقام، وأراد للناس جميعاً أن يتعايشوا متحابين متكافلين تحت مظلة التوحيد والعدل .
جاءه عثمان بن طلحة بمفاتيح الكعبة، فتناولها منه النبي r ففتح الكعبة المشرفة وصلّى فيها ثم أعادها إليه وقال له : خذوها لا ينزعها منكم إلا ظالم . ولا شك أن عثمان خجل من نفسه، وتمنى لو تبتلعه الأرض حين فاجأه النبي بهذا الكلام، ذلك لأنه يذكر يوماً آخر في مكة قبل هذا اليوم ، حين كان النبيr فقيراً وحيداً مُكذَّباً طريداً، فقد طلب منه النبي r المفاتيح، فأبى عثمان، فقال له النبي r: كيف بك ياعثمان ذات يوم والمفاتيح بيدي أضعها حيث أشاء؟ فقال له عثمان : لقد ذلّت قريش يومئذ وهانت ، فقال المصطفى r : بل عَمَرت وعزت ([28] )   .
وقد ذكّره النبي r بذلك فقال له : ألم يكن الذي قلت لك ؟ ولكن لا ليجرح خاطره، وإنما ليزيده إيماناً بنبوته ، وقد فهم عثمان الرسالة فقال : بلى أشهد أنك رسول الله .  وبدلاً من التفكير بالانتقام أكرمه النبي  r غاية الإكرام . أجل إنه يتمثّل قول الله عز وجل : }فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ { [ الحجر آية 85 ] وقول سبحانه وتعالى فيه : } فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ { [ سورة آل عمران آية 159 ]
هكذا كانت رسالته r، وهكذا كانت دعوته : المحبة التسامح، والعفو والرحمة، والتواضع لله جل شأنه . تأمل في قوله r : "" عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ مَثَلِى وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِى كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ ، إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ ، وَيَقُولُونَ هَلاَّ وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ قَالَ فَأَنَا اللَّبِنَةُ ، وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ » . "" ([29] )    كم يحمل هذا الحديث من دلالات معبرة ، ومعاني مؤثرة، فهو r يرى أن الدين بناء شكل الأنبياء جميعاً فيه لبنات متماسكة، ولم يبق من هذا البناء إلا مقدار لبنة ، وكان البناء جميلاً وبديعاً تعجب منه الناس، وتمنوا لو وضعت  تلك اللبنة، فكانت بعثته rهي لبنة الكمال، ولكنه r لم يجعل من نفسه ركيزة البناء، أو أحد جدرانه، وإنما جعل من نفسه لبنة في بناء النبوة، يتراصّ مع إخوانه من الأنبياء السابقين ليتكوّن للبشر بناء يحقق لهم المأوى والمثوى والسعادة في الدنيا والآخرة، فلم يبخس النبيُّ إخوانَه من الأنبياء - عليهم السلام جميعاً - حقهم، ولم ينكر فضلهم وجهادهم .
إنه r يعلمنا كيف نتكامل "" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "" ([30] )      ويعلمنا كيف نتواضع فيقول :  "" « وَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَىَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلاَ يَبْغِى أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ ». "" ([31] )     ويعلمنا كيف نتعاون ونتراصّ ، لكي نكون أقوى في مسيرة الحياة، وأقدر على الإعمار، وأصبر على الشدائد .
أما هو r فقد بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمّة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، وخُيِّر فاختار الرفيق الأعلى .   
ولقد قصّرت الأمة في الوفاء بحقه r في هذا العصر، فلم تحسن عرْض سيرته على الناس، فتعرّض له الناس ، وأساؤوا لأعظم إنسان عاش على ظهر هذه الأرض ، وجاهد لتطهيرها من الفساد والظلم والخداع والكذب والاستبداد .
ومن واجب الأمة الآن أن تخاطب الأمم بلغاتها، ومن خلال ثقافاتها وحضاراتها ، وأن تراعي تغيرات الأفهام، وتبدلات الأعصار، واختلاف الوسائل، والتباس المسائل ، فتكشف الغيوم الداكنة بشمس الحقائق الساطعة ، وتكنس الأوهام المتراكمة، بالحجج النيرة والبراهين الميسَّرة عن سيرة وشخصية وحياة سيدنا رسول الله r ، وأن تخاطب بذلك الناس جميعاً، بمختلف بلدانهم وعقولهم ولغاتهم، وأن تحشد لذلك كل الإمكانات العقلية والفكرية والسياسية والإعلامية والمادية .
وفي هذا الإطار يأتي كتاب الأخ الفاضل، والصديق المكرّم محمد مسعد ياقوت، وهو باحث نشط ، بدايته مشرقة، وأرجو من الله عز وجل أن تكون كذلك نهايته بعد عمر طويل، عامر بالعطاء والثراء، ليقف على ثغر من ثغور الإسلام، يصد عنه المتكالبين بالحجة والبرهان، ويدعو إليه التائهين بالكلمة والحكمة والبيان .
أسأل الله عز وجل له ولي دوام التوفيق والسعادة ، وحسن القصد والريادة، والإخلاص والسداد في القول والعمل إنه سميع قريب مجيب .
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين .


أحمد إدريس الطعان

عفا الله عنه

داريا 8 / 9 / 2007 م منتصف ليلة الأربعاء .





[1] الكاتب الإسلامي والأستاذ بكلية الشريعة جامعة دمشق
([2])  سنن أبي داوود  13 / 324 . ومسند الإمام أحمد 37 / 107 برقم(16546)، وهو صحيح، ومخرج في ( تخريج المشكاة ) ( 163 و4247 )

([3])   راجع سنن أبي داوود – المستدرك على الصحيحين للحاكم – مسند الإمام أحمد – سنن ابن ماجه – المعجم الكبير للطبراني .
([4])   راجع صحيح البخاري برقم (38) – وسنن النسائي  .
([5])   راجع صحيح البخاري –  وصحيح مسلم   .
([6])   راجع صحيح مسلم وسنن النسائي وابن ماجه   .
([7])   سنن البيهقي الكبرى  وشعب الإيمان للبيهقي أيضاً وسنن ابن ماجه  والمعجم الكبير للطبراني   .
([8])   سنن الترمذي وسنن النسائي الكبرى وصحيح ابن حبان ومسند الإمام أحمد والمعجم الكبير للطبراني .    .
([9])   صحيح ابن حبان والمعجم الكبير للطبراني    .
([10])   صحيح البخاري – وسنن النسائي وصحيح ابن حبان وغيرهما   .
([11])  صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما  .
([12])  صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما .
([13])  بَلْ كَانَ هَدْيُهُ أَكْلُ مَا تَيَسّرَ فَإِنْ أَعْوَزَهُ صَبَرَ حَتّى إنّهُ لَيَرْبِطُ عَلَى بَطْنِهِ الْحَجَرَ مِنْ الْجُوعِ وَيُرَى الْهِلَالُ وَالْهِلَالُ وَالْهِلَالُ وَلَا يُوقَدُ فِي بَيْتِهِ نَارٌ . راجع زاد المعاد لابن القيم 142 / 1 ..
([14])  راجع تهذيب الآثار للطبري 21 / 3 وحلية الأولياء لأبي نعيم 137 / 2 والسيرة النبوية لابن كثير 188 / 3 . وسبل الهدى والرشاد 104 / 7 .
([15])  سنن النسائي وسنن البيهقي الكبرى   .
([16]) عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- سَأَلَ أَهْلَهُ الأُدُمَ فَقَالُوا مَا عِنْدَنَا إِلاَّ خَلٌّ. فَدَعَا بِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ بِهِ وَيَقُولُ « نِعْمَ الأُدُمُ الْخَلُّ نِعْمَ الأُدُمُ الْخَلُّ ». أخرجه مسلم .
([17])    الحديث في صحيح  مسلم . 
([18])  الحديث في  صحيح البخاري .
([19])   الحديث في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما   .
([20])    أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما .
([21])   أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما  .
([22])   أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما   .
([23])  عن أبي أمامة الباهلي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « عرض علي ربي عز وجل أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا ، فقلت : لا يا رب ، ولكن أجوع يوما وأشبع يوما ، فإذا شبعت حمدتك وشكرتك ، وإذا جعت تضرعت إليك ودعوتك ». راجع شعب الإيمان للبيهقي 343 / 21 وحلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني 133 / 8 .
([24])  أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما    .
([25])  انظر السنن الكبرى للبيهقي وسيرة ابن هشام وسائر المصنفات في السيرة أثناء الحديث عن فتح مكة    .
([26])سنن أبي داود (3303) وهو في " السلسلة الصحيحة " 4 / 496

([27])  أخرجه البخاري  وفيه زيادات مختلفة عند البيهقي في السنن ودلائل النبوة له أيضاً والمعجم الكبير للطبراني، وتراجع كتب السيرة المختلفة عند قصة الفتح .    .
([28]) راجع : زاد المعاد لبن قيم الجوزية 356 / 3 .
([29])  أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما    .
([30])  أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين 4 / 28 وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، وقال الذهبي في تعليقه : على شرط مسلم . وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10 / 192 والطبراني في المعجم الأوسط 15 / 165   .
([31])    أخرجه مسلم في صحيحه والبخاري في الأدب المفرد وأبو داوود في سننه وابن ماجه والبيهقي في سننهما وغيرهم . 

0 commentaires:

إرسال تعليق