الفصل السابع : رحمته عليه الصلاة والسلام للضعفاء


المبحث الأول

رحمته للفقراء

وفي رعاية محمد  للفقراء والمحتاجين مظهر من مظاهر الرحمة في شخصيته ، وخصوصاً تلك الجهود المشكورة التي بذلها في مكافحة الفقر والبطالة ..

فبعدما عاشت الجزيرة العربية حياة الطبقية ..  الغني يأكل الفقير، والقوي يبتذ
الضعيف، ظهر سيدنا محمد بدعوته التي حققت العدالة الاجتماعية متمثلة في دولة المدينة المنورة من ناحية، وفي منهج الإسلام في مكافحة الفقر والمرض والجهل من ناحية أخرى ..
المطلب الأول : فضل محمد على الفقراء :
كان النبي  رحمة حقيقة للفقراء ..
رحمة لهم كمشّرع، رحمة لهم كحاكم، ورحمة لهم كغني ، ورحمة لهم كنبي قبل كل شيء!
يقول المستشرق الإسباني جان ليك:
" وقد برهن  بنفسه على أن لديه أعظم الرحمات لكل ضعيف ، ولكل محتاج إلى المساعدة ، كان محمد  رحمة حقيقة لليتامى والفقراء وابن السبيل والمنكوبين والضعفاء والعمال وأصحاب الكد والعناء"[1].
وكان - كما تقول كوبولد -: "كريمًا بارًا كأنه الريح السارية، لا يقصده فقير أو بائس إلا تفضل عليه بما لديه، وما لديه كان في أكثر الأحايين قليلاً لا يكاد يكفيه"[2].
"ومن يجهل أنه  لم يعدل، إلى آخر عمره، عما يفرضه فقر البادية على سكانها من طراز حياة وشظف عيش؟ وهو لم ينتحل أوضاع الأمراء قط مع ما ناله من غنى وجاه عريض.. وكان  حليمًا معتدلاً، وكان يأتي بالفقراء إلى بيته ليقاسمهم طعامه"[3].
وذات مرة " أوحى الله تعالى إلى النبي  وحيًا شديد المؤاخذة لأنه أدار وجهه عن رجل فقير أعمى ليخاطب رجلاً غنيًا من ذوي النفوذ"[4] .
ويلخص  واشنجتون إيرفنج السلوك المالي للنبي r بقوله :
"كان الرسول  ينفق ما يحصل من جزية أو ما يقع في يديه من غنائم في سبيل انتصار الإسلام، وفي معاونة فقراء المسلمين، وكثيرًا ما كان ينفق في سبيل ذلك آخر درهم في بيت المال.. وهو لم يخلف وراءه دينارًا أو درهمًا أو رقيقًا.. وقد خيره الله بين مفاتيح كنوز الأرض في الدنيا وبين الآخرة فاختار الآخرة !"[5].
وفي يوم ازدحمت عليه الأعراب يطلبون المال حتى اضطروه إلى شجرة، فانتزعت رداءه فقال : "أيها الناس، ردوا علي ردائي ! فو الذي نفسي بيده لو كان عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً "[6]. 
ورد على هوازن سباياهم وكانت ستة آلاف، وأعطى العباس من الذهب ما لم يطق حمله!
وحُملت إليه تسعون ألف درهم فوضعت على حصير !! فقام إليها يقسمها، فمارد سائلاً حتى فرغ منها[7] !.
وأعطى صفوان بن أمية غنماً ملأت وادياً بين جبلين فقال صفوان: أرى محمداً يعطى عطاء من لا يخشى الفقر !
وفي ذلك؛ نرى في شخص رسول الله  نموذج الحاكم المسلم العفيف، الذي يتعفف عن المغانم والأموال في سبيل سد أبواب الفقر في المجتمع الإسلامي، كما أنه  بهذا المسلك يكون قدوة وأسوة للأغنياء، فيكون محفزاً لهم على البذل والإنفاق فوق الزكاة المفروضة..
المطلب الثاني : نظام الزكاة – نموذجًا:
وفي نظام الزكاة رحمة عملية للفقراء ..
فالحكومة الإسلامية تحّصل زكاة المال من الأغنياء لتردها إلى فقراء الشعب..
فلما  بَعث النبيُ  معاذَ بن جبل إلى اليمن ، أوصاه الرسول  قائلاً : " أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب"[8] ..
وتعرف الزكاة بأنها الجزء المخصص للفقير والمحتاج من أموال الغنى . وتحسب الزكاة كنسبة 2.5% من المدخرات السنوية إذا تعدت قيمة معينة تعرف بالنصاب .
والزكاة مشتقة في اللغة العربية من زكا والتى تعنى النماء والطهارة والبركة. فإخراج الزكاة طهرة لأموال المسلم وقربة إلى الله تعالى يزداد بها ومجتمعه بركة وصلاحًا .
إذ ينظر الإسلام إلى مال المسلم الغني كأمانة استأمنه الله عليها ينبغي عليه أن يؤدى حقها ويستعملها فيما يرضى الله تعالى .

والزكاة في الإسلام هى أول نظام عرفته البشرية لتحقيق الرعاية للمحتاجين والعدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع حيث يعاد توزيع جزء من ثروات الأغنياء على الطبقات الفقيرة والمحتاجين .
 وخول "الفقراء حق أخذها إذا امتنع الأغنياء من دفعها طوعاً"، كما بين "ليورودتن"[9] .

وتؤدى الزكاة إلى زيادة تماسك المجتمع وتكافل أفراده والقضاء على الفقر وما يرتبط به من مشاكل اجتماعية واقتصادية وأخلاقية إذا أحسن استغلال أموال الزكاة وصرفها لمستحقيها .
وفي الزكاة يقول "ول ديورانت" :
 ".. لسنا نجد في التاريخ كله مصلحًا فرض على الأغنياء من (الضرائب)[10] ما فرضه عليهم محمد  لإعانة الفقراء.."[11].
ويفصِّل "جاك ريسلر" القول في فضائل الزكاة فيقول :
 "كانت الزكاة قبل كل شيء عملاً تعاونيًا حرًا وإداريًا ينظر إليه على أنه فضيلة كبرى. "وفي تنظيم جماعة (المدينة) اعتد النبي  هذا العمل الخير كضريبة شرعية إجبارية لصالح الفقراء والمعوزين. وسيتحول فيما بعد هذا النظام وسيتولد عنه هيئة من موظفين وبيت مال.. لكن إذا كانت الدولة قد صنعت هذا العمل الخيّر مصدرًا لمواردها، فإن مبدأ الزكاة ظل – بفضل القرآن – فضيلة مارسها المسلمون تلقائيًا بوصفه واجبًا دينيًا. وينبغي أن نزجي الثناء لمحمد فقد كان أول من شرع ضريبة تجبى من الأغنياء للفقراء، هكذا أوجد القرآن الرحمة الإجبارية !" [12] .
وما أجمل ما قاله بنكمرت[13] في وصفه لنظام الزكاة، حين قال : "لم أجد دينًا وضع للزكاة تشريعًا شاملاً كالإسلام. والمجتمع الإسلامي الذي يحرص على إخراج الزكاة يخلو من الفقر والحرمان والتشرد.. إنني أتصور لو أن العالم كله اهتدى إلى الإسلام لما بقي على ظهر الأرض جائع أو محروم ! ! والمجتمع المسلم الذي يلتزم بأحكام الإسلام وآدابه مجتمع نظيف سعيد تنعدم فيه الجرائم بكافة ألوانها."[14]
من ناحية أخرى ، فقد حذر سيدنا محمد من مغبة منع الزكاة وتوعد مانع الزكاة بالعذاب الشنيع يوم القيامة، فقال 
"من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع [ نوع من الثعابين ] له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ( يعني شدقيه ) ثم يقول : أنا مالك أنا كنزك ".. ثم تلا النبي]  ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة [ [آل عمران : الآية 180] "[15].
وقال مرغبلاً في فريضة الزكاة  :"من أدى زكاة ماله فقد ذهب عنه شره"[16].
وقال  "ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان : من عبد الله وحده، وعلم أن لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه رافدة عليه كل عام ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة ولكن من وسط أموالكم فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره"[17].
وقالr: "من أعطاها مؤتجرا فله أجرها ، ومن منعها فأنا آخذها وشطر ماله غرمة من غرمات ربنا . لايحل لآل محمد منها شيء"[18].
المطلب الثالث: دوره  في مكافحة  البطالة   :
أولاً : ترسيخ قيم العمل والانتاج  :
لقد رسخ سيدنا محمد  في المجتمع  بتعاليمه الغزيرة قيمًا اجتماعية وتنموية جليلة كالانتاجية والعمل.
فكرس في نفوس المسلمين بغض العطلة، وحب التكسب من عرق الجبين..
فكان رسول الله  يمقت أن يرى الرجل لا شغل له، وقد فضل  ثواب العامل من أجل لقمة العيش على العابد العاكف في المسجد، بل عد الساعي على إطعام بطنه وبطون أهله من الحلال كالخارج في سبيل الله . ونراه في أكثر من موضع يحبذ لكل مسلم فقير أن يحفظ ماء وجهه من سؤال الناس والأفضل له أن يخرج يتكسب من أي وسيلة مشروعة، ولو في جمع الحطب ..
فقال  - مشجعاً على العمل منفرًا من البطالة ـ :"لأن يأخذ أحدكم أحبله، فيأتي بحزمة من حطب على ظهره؛ فيبيعها فيكف بها وجهه؛ خير له من أن يسأل الناس أعطوه أم منعوه"[19].
قال العلامة القرضاوي :
"فبين الحديث أن مهنة الاحتطاب على ما فيها من مشقة، وما يحوطها من نظرات الازدراء، وما يرجى منها من ربح ضئيل، خير من البطالة وتكفف الناس"[20]  .
ثانيًا : قضاء حوائج العاطلين :
 تجده  يفكر ويخطط لشاب فقير بحيث يوفر له فرصة عمل يتكسب منها ..
فعن أنس بن مالك: أن رجلاً من الأنصار أتى النبي يسأله (الصدقة)، فقال " أما في بيتك شىء ؟ " قال: بلى ، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه ، وقعب نشرب فيه من الماء . قال " ائتني بهما " قال:  فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله بيده وقال " من يشتري هذين " ؟ قال:  رجل أنا آخذهما بدرهم.  قال :" من يزيد على درهم ؟ "  مرتين أو ثلاثا . قال رجل :" أنا آخذهما بدرهمين ".  فأعطاهما إياه ، وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري.  وقال " اشتر بأحدهما طعامًا فانبذه إلى أهلك ، واشتر بالآخر قدوما فأتني به " فأتاه به.  فشد فيه رسول الله عودًا بيده ثم قال له:  "اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يومًا " .  فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم،  فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعامًا . فقال رسول الله : " هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة . إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة لذي فقر مدقع [ الفقر الشديد ] أو لذي غرم مفظع،  أو لذي دم موجع "[21].
 فانظر كيف خطط النبي لهذا الشاب ، بحيث يوفر له النبي فرصة عمل يتكسب منها.
ثالثًا: تحريمه البطالة :
هذا، ولقد حارب سيدنا محمد  كل مظاهر البطالة، والإخفاق عن التكسب، بشتى الطرق، ليسد كل باب أمام انتشار الفقر في المجتمع ..
فقلد حرم النبي  البطالة مع القدرة على العمل، والحاجة إلى الكسب لقوته وقوت من يعوله، وفي هذا يقول النبي  : "إن الله يكره الرجل البطال"، " والبطالة تقسي القلب"[22] .
رابعًا: ترغيبهr في الزراعة :
ونراه يرغب في الزراعة  في أحاديث مباركة ، مثل قوله :
"مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَزْرَعُ زَرْعًا أَوْ يَغْرِسُ غَرْسًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ"[23].
خامسًا: ترغيبه في الصناعة :
ويرغب في الصناعة، فيقول:
" مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ- عَلَيْهِ السَّلَام -كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ"[24].
سادسًا: ترغيبه في التجارة :
ويرغب في التجارة، قائلاً:
" التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ"[25].
وقد صنف الإمام البخاري باباً، تحت عنوان : بَاب الْخُرُوجِ فِي التِّجَارَةِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى" فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ " .



[1] جان ليك : العرب ، ص 43
[2]اللادي ايفلين كوبولد: البحث عن الله ، ص67
 [3]لويس سيديو : تاريخ العرب العام ، ص 103 .
[4] لايتنر : دين الإسلام ،133 .
[5] واشنجتون إيرفنج : حياة محمد ، ص303
[6] صحيح ـ صححه الألباني في تخريجح كتاب فقه السيرة لمحمد الغزالي ص 392.
[7] انظر: ابن سيد الناس: عيون الأثر، ج 2 / ص 421، 422.
[8] صحيح ـ وهو في الإرواء، وصححه الألباني في  تخريج مشكلة الفقر، ص 36.
[9] انظر: محمد شريف الشيباني:  الرسول في الدراسات الإستشراقية المنصفة، ص176
[10] الصحيح : الزكاة والصدقات
[11] ول ديورانت : قصة الحضارة ، 13 / 59.
[12] جاك ريسلر : الحضارة العربية، ص43
[13] بريشا بنكمرت (عثمان عبد الله ) : تربوي ، بمملكة تايلاند، نشأ في أسرة بوذية، راح يبحث، بعد إكمال دراسته، عن دين يجدر أن يكون "دين البشرية ودين الحياة"، كما يصفه، وفي مطلع عام 1971 أعلن إسلامه، وغير اسمه إلى عثمان عبد الله.
[14] انظر: عرفات كامل العشي : رجال ونساء أسلموا ، 3 / 115
[15] صحيح ـ  أخرجه البخاري، برقم 1315، والنسائي برقم 8307 وأحمد، برقم 8307 عن أبي هريرة.
[16] حسن لغيره - رواه الطبراني في الأوسط واللفظ له، وابن خزيمة في صحيحه والحاكم مختصرا: " إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره " وقال صحيح على شرط مسلم، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، صحيح لغيره، برقم 743.
[17] صحيح لغيره – رواه ابو داوود، برقم 1349، والبيهقي في شعب الإيمان يرقم 3148، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب :صحيح لغيره، برقم 750
[18] حسن – رواه النسائي برقم 2401، وأحمد برقم 19183، وحسنه الألباني في تخريج مشكلة الفقر، برقم 64.
[19] صحيح البخاري، رقم 1933، وابن ماجه برقم 1826          
[20] يوسف القرضاوي: مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام، 40
[21] رواه أبو داود، برقم 1398،  وابن ماجه 2189 ، وضعفه الألباني . 
[22] رواه القضاعي، في مسند الشهاب من حديث عبد الله بن عمرو، برقم 278..
[23] صحيح – رواه أحمد 12038 عن أنس ، قال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط الشيخين
[24] صحيح – رواه  البخاري 1930 عن الْمِقْدَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَاب كَسْبِ الرَّجُلِ وَعَمَلِهِ بِيَدِهِ.
[25]حسن -  رواه الترمذي عن أبي سعيد، برقم 1130 وحسنه . . 

0 commentaires:

إرسال تعليق