الفصل الرابع :رحمته عليه الصلاة والسلام في مجال التشريع


المبحث الثالث
التيسير

المطلب الأول – شهادة علماء الغرب :
تتحدث الباحثة ماري أوليفر[1] عن مظهر التيسير باعتباره مظهر من مظاهر الرحمة
لنبي الإسلام ، فتبين أن الشريعة الإسلامية التي نادى بها محمد هي  تشريعات "بسيطة سهلة يستطيع كل إنسان أن يفهمها بكل يسر. فالإسلام يؤكد في تعاليمه أن على الناس أن يفكروا وأن يستخدموا عقولهم في الأمور الدينية"[2]..
كذلك يبين جورج سارتون أن الشريعة الإسلامية تمتاز بـ" السماحة والبساطة والاعتدال" وهي – على حد قوله " يسرّ لأي إنسان في أي موطن.."[3]..
كما أن الشرع الإسلامي الحنيف كما يقول آتيين دينيه: " يستبين أقرب أنواع العلاج، فلا يحكم فيه حكمًا قاطعًا ولا يأمر به أمرًا باتًّا"[4].
ويبين - آتيين دينيه-  أن الشرع الإسلامي لا يتعارض ولا يتصادم مع الطبيعة، لأنه شرع يسير، فهو " يساير قوانينها [ أي الطبيعة ] ويزامل أزمانها، بخلاف ما تفعل الكنيسة من مغالطة الطبيعة ومصادمتها في كثير من شؤون الحياة، مثل ذلك الغرض الذي تفرضه على أبنائها الذين يتخذون الرهبنة، فهم لا يتزوجون وإنما يعيشون غرباء. على أن الإسلام لا يكفيه أن يساير الطبيعة وأن لا يتمرد عليها؛ وإنما هو يُدخل على قوانينها ما يجعلها أكثر قبولاً وأسهل تطبيقًا في إصلاح، ونظام، ورضًا ميسور مشكور، حتى لقد ُسمي القرآن لذلك (بالهدى) لأنه المرشد إلى أقوم مسالك الحياة، والأمثلة العديدة لا تعوزنا، ولكنا نأخذ بأشهرها، وهو التساهل في سبيل تعداد الزوجات"[5] .
المطلب الثاني : نماذج التيسير :
يتحدث القرآن الكريم عن صفات النبي الأمي محمد المكتوبة صفته في التوراة والإنجيل، ويبين أن من أهم صفات محمد أنه ييسر على الناس في الأحكام الشرعية، فقال الله تعالى :  ] وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ[[6] 
فمحمد  "  يضع عمن يؤمنون به من بني إسرائيل الأثقال والأغلال التي علم الله أنها ستفرض عليهم بسبب معصيتهم ، فيرفعها عنهم النبي الأمي حين يؤمنون به" [7].
والله تعالى  - وهو الرحيم بعباده - لا يكلف نفساً إلا وسعها ، وقد امتن على عباده بهذا التيسير ؛قال تعالى :] يُريد الله بِكُم اليُسْر ولا يُريدُ بِكُم العُسْر [[ البقرة: 185]  .
ومن اليسر إعفاء النساء من وجوب صلاة الجمعة والجماعة وإعفاء الصغير، والمجنون، والنائم من سريان الأحكام التكليفية عليهم، والحدود، وبعض حقوق العباد كحق القصاص، وحق حد القذف، فقد اشترط فيها جميعاً البلوغ والعقل، واشترط في حد الزنى أربعة شهود تقليلاً لحالات وجوب الحد، تخفيفاً وتيسيراً، واشترط للرجم لشدته الإحصان تخفيفاً عن غير المحصن، واستثنى الولي الفقير من عدم جواز الأكل من مال اليتيم ؛ تخفيفاً عنه، فقد أذن له أن يأكل ولكن بالمعروف[8]، ونماذج أخرى كثيرة. 
ولقد كان النبي  كمشرع  يسعى إلى التيسير على الناس في الأحكام ما استطاع إلى ذلك سبيلاً .. والمواقف كثيرة في سنته وسيرته  وقد كان يتفادى ما يكون سبباً لتكاليف جديدة قد تشق على المسلمين، وكان يتجنب أن يفعل شيئاً يكون فيه مشقة وحرج على المسلمين[9]، فهم يتتبعون أفعاله ليتأسوا ..
فمن ذلك أنه  كان يحث أصحابه على ترك  الإسئلة الفقهية المعقدة، أو التي لا ينبني عليها عمل، لئلاً تفرض عليهم فرائض بسبب سؤالهم. فقد سأله رجل عن الحج: أفي كل عام هو؟ فقال :"لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم"[10]  .

وقال:"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء"[11] .
وقال لبعض أصحابه: "ما بالكم تأتوني قلحاً لا تسوكون؟ لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك كما فرضت عليهم الوضوء"[12].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء وبالسواك عند كل صلاة "[13].
وقال: " لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ "[14].

وعن قالت عائشة: خرج النبي  من عندي وهو مسرور طيب النفس ثم رجع إلي وهو كئيب، فقال: " إِنِّي دَخَلْتُ الْكَعْبَةَ وَلَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا دَخَلْتُهَا إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ شَقَقْتُ عَلَى أُمَّتِي"[15].
فكونه قد دخل الكعبة، يخشى أن يشق بهذا العمل على المسلمين، فهذا العمل شاق، وغير متاح لكل الناس ..

 وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ ! فَقَالَ : " اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ" فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ: "  ارْمِ وَلَا حَرَجَ " ، فَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ  عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إِلَّا قَالَ:" افْعَلْ وَلَا حَرَجَ !"[16].
المطلب الثالث : حثه على التيسير:
قال النبي  مبَيِّنًا طبيعة هذا الدين: " إنَّ الدّين يسر ولن يشادّ الدّين أحد إلا غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا .."[17]
وقال ابن عباس  : قيل للنبي : يا رسول الله! أي الأديان أحبّ إلى الله؟ قال: "الحنيفيَّة السَّمحة"[18]..
وقال لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري لمَّا بعثهما إلى اليمن: " يَسِّرا ولا تُعسِّرا وبَشِّرا ولا تُنَفِّرا.."[19]
وعن عروة الفقيمي قال: كنَّا ننتظر النبي، r فخرج يقطر رأسه من وضوء أو غسل فصلّى، فلمّا قضى الصّلاة جعل النَّاس يسألونه: يا رسول الله! أعلينا من حرج في كذا، فقال رسول الله،  "لا أيّها النّاس: إنَّ دين الله- عزّ وجلّ- في يسر، إنَّ دين الله- عزّ وجلّ- في يسر، إنَّ دين الله- عزّ وجلّ- في يسر"[20]
وجاء في وصفه عن عائشة رضي الله عنها قالت: " مَا خُيِّرَ النَّبِيُّ  بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَأْثَمْ فَإِذَا كَانَ الْإِثْمُ كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ وَاللَّهِ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ قَطُّ حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ "[21]  .
و قال،  " إنَّ خير دينكم أيسره، إنَّ خير دينكم أيسره"[22].
وقال، : " إنَّ الله تعالى رضي لهذه الأمَّة اليسير وكره لها العسير"[23].
وعن عائشة- رضي الله عنها- أنَّ رسول الله، قال: " إنَّ الله لم يبعثني معنّتًا ولا متعنِّتًا، ولكن بعثني معلِّمًا ميسِّرًا "[24] 




[1] ماري أوليفر: باحثة نصرانية درست البوذية والهندوسية، و انتهى بها المطاف إلى الإسلام، حيث اعتنقته مؤمنة بأنه الدين الوحيد الذي يستجيب لمطالب الإنسان.
[2] انظر: عرفات كامل العشي: رجال ونساء أسلموا ، 4 / 144 – 145 .
[3] جورج سارتون : الشرق الأدنى : مجتمعه وثقافته ( بإشراف كويلر يونغ )، ص 140
[4] آتيين دينيه: أشعة خاصة بنور الإسلام ، ص 31 .
[5] آتيين دينيه : أشعة خاصة بنور الإسلام ، ص 31 .
[6] سورة الأعراف: الآية 157
[7] سيد قطب : في ظلال القرآن ، سورة الأعراف، تفسير الآية 157
[8] انظر: الموسوعة الكويتية – مادة: (تيسير ).
[9] كما هو الحال في عدم مداومته على أداء صلاة التراويح في رمضان، حتى لا يظن الناس أنها واجبة ..
[10] صحيح – رواه مسلم، باب فرض الحج مرة في العمر ، رقم 2380
[11] صحيح – رواه  مسلم، باب السواك، رقم 370
[12] صحيح - رواه أحمد، وصححه الشيخ احمد شاكر في تعليقه على المسند 3 / 246 – 248، والشق الثاني من الحديث في السلسلة الصحيحة برقم 3067
[13] صحيح -  مشكاة المصابيح - (ج 1 / ص 81) رقم  376
[14] صحيح – رواه البخاري، باب الْجَعَائِلِ وَالْحُمْلَانِ فِي السَّبِيلِ ، رقم 2750
[15] رواه أبو داود،  باب في دخول الكعبة برقم 1734. والترمذي برقم 799، وابن ماجة 3055
[16] صحيح - رواه البخاري، بَاب الْفُتْيَا وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الدَّابَّةِ وَغَيْرِهَا، برقم 81.
[17]  صحيح -  البخاري، بَاب الدِّينُ يُسْرٌ، رقم 38
[18] حسن – رواه أحمد (1/236). والبخاري معلقًا (1/15). وحسن الحافظ إسناده في الفتح (1/117).
[19] صحيح -  البخاري (5/108). ومسلم (3/1359) رقم (1733).
[20] رواه أحمد (5/69). قال الهيثمي في المجمع (1/67)؛: رواه أحمد والطبراني في الكبير وأبو يعلى وفيه عاصم بن هلال، وثقه أبو حاتم وأبو داود، وضعفه النسائي وغيره. قال الحافظ في التقريب ص (286): فيه لين
[21] صحيح - رواه البخاري، بَاب إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالِانْتِقَامِ لِحُرُمَاتِ اللَّهِ ، رقم 6288 .
[22] قال الهيثمي في المجمع (4/18): رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح
[23] قال الهيثمي في المجمع (4/18): رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح.
[24]  صحيح – رواه  مسلم (2/1105) رقم (1478).

0 commentaires:

إرسال تعليق