- 84 - غزوات وبعوث وسرايا وأحداث بعد أحد الى ما قبل غزوة بدر الثالثة


غزوة حمراء الأسد


- حمراء الأسد موضع على ثماينة أميال من المدينة . وكانت الغزوة صبيحة أحد . إذ وقعة أحد يوم السبت والغزوة المذكورة يوم الأحد لست عشرة مضت من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهرا من الهجرة . وكانت لطلب العدو الذي كانوا بالأمس

قال الواقدي باتت وجوه الأنصار على بابه صلى الله عليه وسلم فلما طلع الفجر وأذن بلال بالصلاة جاء عبد الله بن عمرو المزني فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقبل من عند أهله بملل اسم موضع قرب المدينة إذا قريش قد نزلوا فسمعهم يقولون ما صنعتم شيئا . أصبتم شوكة القوم وحدهم ثم تركتموهم ولم تبيدوهم . قد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم فارجعوا نستأصل من بقي وصفوان بن أمية يأبى ذلك عليهم ويقول لا تفعلوا فإن القوم قد غضبوا وأخاف أن يجتمع عليكم من تخلف من الخزرج . فارجعوا والدولة لكم فأني لا آمن ان رجعتم أن تكون الدولة عليكم . فقال صلى الله عليه وسلم وأرشدهم صفوان وما كان برشيد . والذي نفسي بيده لقد سومت لهم الحجارة ولو رجعوا لكانوا كالأمس الذاهب
ولما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ندب الناس وأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج أي أمر بلالا أن ينادي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم بطلب العدو وأن لا يخرج معنا أحد إلا من خرج معنا أمس يعني من شهد أحدا وأراد بذلك اظهار الشدة بالعدو والزيادة في تعظيم من شهد أحدا ومنع بذلك اختلاط المنافقين . لم يشه هذه الغزوة الا من شهد أحدا عدا جابر بن عبد الله فإنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أبي خلفني يوم أحد على أخوات لي سبع فلم أشهد الحرب فأذن لي أن أسير معك فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخرج معه أحد لم يشهد القتال غيره
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة نفر من أسلم طليعة في آثار القوم فلحق اثنان منهم القوم بحمراء الأسد فبصروا بالرجلين فقتلوهما . ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودليله ثابت بن الضحاك بن ثعلبة بن الخزرج حتى عسكر بحمراء الأسد فوجد الرجلين فدفنهما . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مجروحا وفي وجهه أثر الحلقتين . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لطلحة : يا طلحة لن ينالوا منا مثلها حتى يفتح الله علينا مكة . وقال لعمر بن لخطاب رضي الله عنه : يا ابن الخطاب إن قريشا لن ينالوا منا مثل هذا حتى نستلم الركن
أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد الأثنين والثلاثاء والأربعاء . وكان المسلمون يوقدون تلك الليالي خمسمائة نار حتى ترى من المكان البعيد وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم في كل وجه فكبت الله بذلك عدوهم
وكان اللواء بيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه واستعمل صلى الله عليه وسلم على المدينة أم مكتوم
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن الله قذف في قبل أبي سفيان الرعب بعد الذي كان منه يوم أحد فرجع إلى مكة
ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ووصلوا المدينة يوم الجمعة وقد غاب خمساص وظفر صلى الله عليه وسلم عند رجوعه إلى المدينة بمعاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس وهو جد عبد الملك بن مروان فأمر بقتله
قال الطبري : " وفيها أي في السنة الثالثة من الهجرة علقت فاطمة بالحسين صلوات الله عليهما . وقيل لم يكن بين ولادتها الحسن وحملها بالحسين الا خمسون ليلة ( وفيها ) حملت فيما قيل جميلة بنت عبد الله بن أبي بعبد الله بن حنظلة بن أبي عامر في شوال "


بعث الرجيع


- الرجيع ماء لهذيل . وقال ابن اسحاق والواقدي . الرجيع ماء لهذيل قرب الهدأة بين مكة والطائف
وإنما أضيف البعث إلى اسم ذلك الماء لأن الوقعة كانت بالقرب منه وبعث الرجيع هي سرية عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه . وكان بعثه في صفر من السنة الرابعة ( مايو سنة 625 م )
وسبب هذا أن بني لحيان من هذيل مشوا إلى عضل والقارة وهما قبيلتان من بني الهون بن خزيمة بن مدركة فجعلوا لهم ابلا على أن يكلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج إليهم نفرا من أصحابه فقدم سبعة نفر مظهرين فقالوا يا رسول الله إن فينا اسلاما فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا في الدين ويقرؤننا القرآن ويعلموننا شرائع الإسلام . وقيل أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يبعث عيونا إلى مكة ليأتوه بخبر قريش . فلما جاء هؤلاء النفر يطلبون من يقفههم بعث معهم ستة من أصحابه للامرين جميعا . وهذه البعثة مؤلفة من : عاصم بن ثابت . ومرثد بن ابي مرثد الغنوى . وخبيب بن عدي الأوسي البدري . وزيد بن الدثنة . وعبد الله بن طارق . وخالد بن البكير
خرج هؤلاء حتى أتوا الرجيع فغدروا بهم واستصرخوا عليهم هذيلا ليعينوهم على قتلهم فلم يرع القوم وهم في رحالهم الا الرجال بأيديهم السيوف فأخذ عاصم ومن معه أسيافهم ليقاتلوا القوم . فقالوا انا والله لا نريد قتلكم ولكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم . وقالوا ذلك لأنهم يريدون أن يسلموهم لكفار قريش ويأخذوا في مقابلتهم مالا لعلمهم أنه لا شيء أحب إلى قريش من أن يأتوا بأحد من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يمثلون به ويقتلون به ويقتلونه بمن قتل منهم ببدر وأحد فأبوا أن يقبلوا منهم . فأما مرثد وخالد بن البكير وعاصم بن ثابت فقالوا واللذه لا نقبل من مشرك عهدا وقاتلوا حتى قتلوا
وأما زيد وخبيب وعبد الله بن طارق فلانوا ورقوا ورغبوا في الحياة فأعطوا بأيديهم فأسروهم ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القران ثم أخذ سيفه واستأخر عنه القوم فرموه بالحجارة حتى قتلوه فقبره بالظهران . وأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فقدموا بهما مكة فباعوهما فابتاع خبيبا حجير بن أبي إهاب التميمي حليف بني نوفل لعقبة بن الحارث بن عامر ابن نوفل وكان حجير أخى الحارث بن عامر لأمه ليقتله بأبيه . وأما زيد ابن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف وكان شراؤهما في ذي القعدة فحبسوهما حتى خرجت الأشهر الحرم فقتلوا زيدا وأما خبيب فكذلك مكث أسيرا حتى خرجت الأشهر الحرم ثم أجمعوا على قتله تكانوا في أول الأمر أساءوا إليه في حبسه فقال لهم ما يصنع القوم الكرام هكذا بأسيرهم فأحسنوا إليه بعد ذلك وجعلوه عند امرأة تحرسه وهي ماوية مولاة حجير وقد قالت ماوية كان خبيب يتهجد بالقرآن فإذا سمعه النساء بكين ورققن عليه . فقلت له هل لك من حاجة قال لا إلا أن تسقيني العذب ولا تطعمني ما ذبح على النصب وتجيريني إذا أرادوا قتلي . فلما أرادوا ذلك أخبرته فوالله ما أكترث بذلك ولما خرجوا بخبيب من الحرم ليقتلوه قال ذروني أصل ركعتين فتركوه فصلى سجدتين فجرت سنة لمن قتل صبرا أن يصلي ركعتين ثم قال خبيب لولا أن يقولوا جزع لزدت وما أبالي على أن شقي كان لله مصرعي ثم قال
وذلك في ذات الاله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
اللهم أحصهم عددا وخذهم بددا ثم خرج به أبو سروعة بن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف فضربه فقتله
وعن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال لما أرادوا قتل خبيب ووضعوا فيه السلاح والرماح والحراب وهو مصلوب نادوه وناشدوه أتحب أن محمدا مكانك ؟ قال لا والله ما أحب أن يفديني بشوكة في قدمه . وقيل أن زيد بن الدثنة قالوا له أيضا عند قتله فأجابهم بمثل ذلك فقال أبو سفيان رضي الله عنه : ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا وقد قتل زيدا نسطاس
وقد كانت هذيل حين قتل عاصم بن ثابت قد أرادوا رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد وكانت قد نذرت حين أصاب ابنها يوم أحد لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفة الخمر فمنعته الذبر ( الزنانير ) فلما حالت بينهم وبينه قالوا دعوة حتى بمسى فتذهب عنه فتأخذه فبعث الله سيلا فاحتمل عاصم وكان عاصم قد أعطى الله عهدا أن لا يمسه كشرك أبدا ولا يمس مشركا أبدا تنجسا منه
فكان عمر بن الخطاب يقول حين بلغه أن الدبر منعته " عجبا لحفظ الله العبد المؤمن كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا في حياته فمنعه الله بعد وفاته ما امتنع منه في حياته "
ولما قتل من جهة النبي صلى الله عليه وسلم إلى عضل والقارة من أهل الرجيع وبلغ خبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن أمية الضمري عالما بمكة جريئاز فلما وصلا مكة طافا بالبيت أسبوعا فعرف عمرا رجل منهم فصاح بأعلى صوته هذا عمرو بن أمية ففر هو وصاحبه إلى المدينة ناجيين


سرية بئر معونة ( 1 )


- وتسمى هذه السرية سرية المنذر بن عمرو الخزرجي وتسمى أيضا بسرية القراء كانت هذه السرية في شهر صفر في السنة الرابعة من الهجرة ( مايو سنة 625 م ) على رأس أربعة اشهر من أحد . وكان من أمرها كما قاله ابن اسحاق عن شيوخه أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر العامري ويعرف بملاعب الأسنة فعرض النبي صلى الله عليه وسلم عليه الإسلام فلم يسلم ولم يبعد وقال له : يا محمد إني أرى أمرك هذا حسنا شريفا وقومي خلفي فلو أنك بعثت معي نفرا من أصحابك لرجوت أن يتبعوا أمرك فإنهم إن اتبعوك فما أعز أمرك فقال إني أخشى أهل نجد عليهم فقال أنا لهم جار فبعث صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو ومعه القراء وهم سبعون . فلما وصلوا بئر معونة بعثوا حرام بن ملحان أخا أم سليم خال أنس بن مالك رضي الله عنه بكتابه صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر الكلابي العامري وهو ابن أخي أبي براء فلم ينظر في الكتاب بل وثب على حرام فقتله واستصرخ بني عامر قومه فأبوا وقالوا لا يخفر جوار أبي براء ( 2 ) فاستصرخ عليهم قبائل من سليم عصية ورعلا فأحاطوا بهم فكاثروهم فتقاتلوا فقتل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر اهل بئر معونة فقال هذا سببه عمل أبي براء حيث أخذهم في جواره . قد كنت لهذا كارها متخوفا . فبلغ ذلك أبا البراء فمات عقب ذلك أسفا على ما صنع ابن أخيه عامر بن الطفيل ومات عامر بن الطفيل
قال حسان بن ثابت يرثي قتلى معونة :
على قتلى معونة فاستهلي ... بدمع العين سحا غير نزر
على خيل الرسول غداة لاقوا ... ولاقتهم مناياهم بقدر
ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى ما وجد على قتلى بئر معونة لكونه لم يرسلهم لقتال إنما هم مبلغون رسالته وقد جرت عادة العرب قديما بأن الرسل لا تقتل
قال العلامة الزرقاني . وإنما لم يخبره سبحانه وتعالى بما ترتيب على ذهاب القراء وأهل الرجيع قبل خروجعم كما أخبره بنظير ذلك من الأشياء لأنه سبق في علمه تعالى اكرامهم بالشهادة وأراد حصول ذلك بمجيء أبي براء ومن طلب أصحاب الرجيع
وكان مع هذه السرية عمرو بن أمية الضمري وقد قتلوا جميعا غيره وقد كان أسيرا في أيديهم فقال لع عامر بن الطفيل قد كان على أمي نسمة فأنت حر عنها وجز ناصيته ( 3 ) فأعتقه عن رقية زعم أنها كانت على أمه . فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أبي من بينهم وكان عمرو لما خرج إلى المدينة صادف بمحل يسمى القرقرة رجلين من بني عامر ثم من بني كلاب فنزلا معه في ظل كان هو فيه وكان معهما عقد وعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر به عمرو فقال لهما عمرو ومن أنتما فذكرا له أنهما من بني عامر فتركهما حتى ناما فقتلهما وظن أنه ظفر بثناء بعض أصحابه الذين قتلوا ببئر معونة وجاء وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال بئس ما صنعت قد كان لهما مني أمان وجوار لأدينهما فبعث بديتهما إلى قومهما
ومن جملة القراء الذين قتلوا ببئر معونة عامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه وهو الذي عذب في الله فاشتراه أبو بكر فاعتقه واستشهد في هذه الموقعة وهو ابن أربعين سنة
_________
( 1 ) بئر معونة اسم لموضع ببلاد هذيل بين مكة وعسفان وفي معجم البلدان أنها بين أرض عامر وحرة بني سليم
( 2 ) أي لن ننقض عهده
( 3 ) أي الشعر المجاور لها


غزوة بني النضير


- النضير اسم قبيلة من اليهود الذين كانوا بالمدينة وكانوا هم وقريضة نازلين بظاهر المدينة في حدائق وآطام لهم ( 1 )
قال غير واحد من أهل السير لما قدم اليهود المدينة نزلوا السافلة فاستوخموها فأتوا العالية فنزل بنو النضير بطحان ونزل بنو قريظة مهزورا وهما واديان يهبطان من حرة هناك تنصب منها مياه عذبة فاتخذ بنو النضير الحدائق والآطام وأقاموا بها ( 2 ) وكان بينهم وبين المدينة نحو ميلين أو ثلاثة وكانوا يمتلكون نخيلا بجوار المدينة
كانت هذه الغزوة في شهر ربيع الأول سنة أربع على رأس سبعة وثلاثين شهرا من الهجرة ( يونية سنة 625 م )
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السبت فصلى في مسجد قباء ومعه نفر من أصحابه المهاجرين والأنصار . ثم أتى بني النضير فكلمهم أن يعينوه في دية الكلبيين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري . فقالوا نفعل يا أبا القاسم ما أحببت . وخلا بعضهم ببعض وهموا بالغدر به . وقال عمر بن جحاش بن كعب بن بسيل النضرى أنا أظهر على البيت فأطرح عليه صخرة . فقال سلام بن مشكم لا تفعلوا والله ليخبرن بما هممتم به وأنه لقض للعهد الذي بيننا وبينه وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر بما هموا فنهض سريعا كأنه يريد حاجة فتوجه إلى المدينة ولحقه أصحابه
ثم بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحمد بن مسلمة أن اخرجوا من بلدي فلا تساكنوني بها وقد هممتم بما هممتم به من الغدر وقد أجلتكم عشرا فمن رئى بعد ذلك ضربت عنقه . فمكثوا على ذلك أياما يتجهزون وأرسلوا إلى ظهر لهم بذي الجدر وتكاروا من ناس من أشجع ابلا فأرسل إليهم ابن أبي لا تخرجوا من دياركم وأقيموا في حصنكم فإن معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون معكم حصنكم فيموتون عن آخرهم وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان فطمع حيى فيما قال ابن أبي فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انا لانخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك . فأظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير وكبر المسلمون لتكبيره . وقال حاربت يهود . فسار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه فصلى العصر بفضاء بني النضير وعلي رضي الله عنه يحمل رايته واستخلف على المدينة ابن أبي مكتوم . فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاموا على حصونهم ومعهم النبل والحجارة واعتزلتهم قريظة فلم يعنهم وخذلهم ابن أبي وحلفاؤهم من غطفان فأيسوا من نصرهم . فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطع نخلهم . فقالوا نخرج عن بلادك فقال لا أقبله اليوم . ثم قال لهم اخرجوا منها ولكم دماؤكم وماحملت الإبل الا الحلقة ( 3 ) فرضوا بذلك نزلوا عليه . وكان حصارهم خمسة عشر يوما
احتمل بنو النضير من أموالهم ما استقلت به الإبل فكان الرحل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام . فكان من سار من أشرافهم إلى خيبر سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وحيى بن أخطب فلما نزلوها دان لهم أهلها
لما أيقن بنو النضير بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم فجعلوا يخربونها من داخل وقد كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم مما يستحسنونه أو الباب فيهدمون بيوتهم وينزعونها ويحملونها على الإبل
لكن الدكتور اسرائيل ولفنسون يقول في رسالته : ( تاريخ اليهود في بلاد العرب ) " إن هدم البيوت لم يكن القصد منه التخريب وأخذ الأخشاب بل أن هدم نجاف البيوت يتعلق بعقيدة تلمودية معروفة ويه أن كل يهودي يعلق على نجاف بيته صحيفة تشتمل على وصية موسى لبني اسرائيل أن يحتفظوا بالإيمان باله واحد ولا يبدلوه ولو عذبوا وقتلوا فاليهود حين ينزحون من منازلهم يأخذونها معهم وهي عادة متبعة عند اليهود إلى يومنا هذا . قال ويظهر أن يهود بلاد العرب كانوا يضعون تلك الصحيفة في داخل النجاف خوفا من اتلاف الهواء أو مس الأيدي فلما رحلوا عن ديارهم هدموا نجاف البيوت وأخذوها "
وانا نسلم إن هذه عادة اليهود ولا ننازعه في أنهم أخذوا تلك الصحائف المقدسة مع ما أخذوا لكن أخذ الصحائف فقط لا يستدعي هدم البيوت وإلا كان الواحد منهم إذا انتقل من بيت إلى أخر هدم البيت الأول لاستخراج صحيفته وهذا محال وعبارة ابن اسحاق صريحة في أن الرجل منهم كان يهدم بيته عن نجاف بابه ويضعه على ظهر بعيره فينطلق . والنجاف الذي يقال له الدوارة وهو الذي يستقبل الباب من أعلى الأسكفة . وفي السيرة الحلبية صاروا ينقضون العمد والسقوف وينزعون الخشب حتى الأوتاد وينقضون الجدران حتى لا يسكنها المسلمون حسدا وبغضا
قال ابن اسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث أنهم استقلوا بالنساء والأبناء والأموال معهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن خلفهم وأن فيهم لأم عمرو صاحبة عروة بن الورد العبسي التي ابتاعوا منه
وكانت إحدى نساء بني غفار بزهاء وفخر ما رؤى مثله من حي من الناس في زمانهم
وقد حملوا أمتعتهم على ستمائة بعير وحزن المنافقون عليهم حزنا شديدا لكونهم أخزانهم وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تركوه من الأموال والدروع والسلاح . ووجد خمسين درعا وخمسين بيضة وهي الخوذة وثلاثمائة وأربعين سيفا . فكان أموال بن النضير مختارا لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فكان ينفق منها على أهله ويدخر قوت سنة من الشعير والتمر لأزواحه وبني عبد المطلب وما فضل جعله في السلاح والكراع ( 4 ) هذا ما ذهب إليه الامام أبو حنيفة رضي الله عنه
وذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أنه صلى الله عليه وسلم قسمها بين المهاجرين فيرفع بذلك مؤنتهم عن الأنصار وهذا يتفق مع ما رواه ابن اسحاق فإن قال : وخلوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث يشاء فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقرا فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولم يسلم من بني النضير إلى رجلان : يامين بن عمير بن كعب بن عمرو بن جحاش وأبو سعد بن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاها
وقتل في هذه الغزوة عزوك . وكان شجاعا راميا من بني النضير قتله علي رضي الله عنه . ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا دجانة وسهل بن حنيف في عشرة ليدركوا الذين فروا من علي رضي الله عنه فقتلوهم وطرحوا رءوسهم في بعض الآبار
قال ابن اسحاق ونزل في أمر بني النضير سورة الحشر بأسرها يذكر فيها ما أصابهم الله به من نقمته وما سلط عليه به رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عمل به فيهم . وفي البخاري عن سعيد بن جبير قال قلت لأبن عباس رضي الله عنهما سورة الحشر قل سورة النضير
( ملحوظة ) لم أعثر في المراجع التي اطلعت عليها على عدد بني النضير الذين أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة
_________
( 1 ) آطام : حصون مفردها أطم
( 2 ) راجع معجم البلدان
( 3 ) وهي الدروع والسلاح
( 4 ) الخيل


تحرم الخمر . ( الاصلاح الأجتماعي العظيم )


- قال جماعة من الصحابة يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال فنزل فيها قول تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } فشربها قوم وتركها آخرون . ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا فشربوا وسكروا فقام بعضهم يصلي فقرأ { قل يأيها الكافرون أعبد ما تعبدون } فنزل { يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } فقل من شربها . ثم اجتمع قوم من الأنصار وفيهم سعد بن أبي وقاص . فلما سكروا افتخروا وتناشدوا الأشعار حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء للأنصار فضربه أنصاري بلحي بعير فشجه شجة موضحة فشكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزل { يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر } إلى قوله { فهل أنتم منتهون } : فقال عمر انتهينا يا رب
والحكمة في تحريم الخمر تدريجيا على هذا الترتيب أن القوم كانوا ألفوا شربها وكان أنتفاعهم بذلك كثيرا فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق ذلك عليهم . روى أبو داود في سننه عن الشعبي عن ابن عمر رضي الله عنهما . قال نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة من العنب والتمر والحنطة والشعير والذرة . قال الخطابي وتخصيص الخمر بهذه الأشياء الخمس ليس لأجل أن الخمر لا يكون إلى من هذه الخمسة بأعيانها وإنما جرى ذكرها خصوصا لكونها معهودة في ذلك الزمان . روى أبو داود عن جابر ابن عبد الله . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أسكر كثيره فقليله حرام " وقال عائشة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام " . ونهى رسول الله عن كل مسكر ومفتر والمفتر كل شراب يورث الفتور والتحذير في الأعضاء
وقد حرمت الخمر في السنة الرابعة من الهجرة أثناء غزوة بني النضير


غزوة ذات الرقاع


- اختلف في سبب تسمية هذه الغزوة بذات الرقاع . قيل هي اسم شجرة في موقع الغزوة سميت بها . وقيل لأن أقدامهم نقبت من المشي فلفوا عليها الخرق . وقيل بل سميت برقاع كانت في ألويتهم . وقيل ذات الرقاع جبل فيه سواد وبياض وحمرة فكأنها رقاع في الجبل فسميت الغزوة بذلك الجبل والأصح أنه موضع لقول دعثور
حتى إذا كنا بذات الرقاع
وتسمى هذه الغزوة غزوة محارب وغزوة بني ثعلبة وغزوة بني أنمار وغزوة صلاة الخوف لوقوعها فيها
قال ابن اسحاق : ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد غزوة بني النضير شهيري ربيع وبعض شهر جمادى ثم غزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان نخل وهي ذات الرقاع فلقي بها جمعا من غطفان فتقارب الناس ولم يكن بينهم حرب وقد خاف الناس بعضهم بعضا حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ثم انصرف المسلمون
صلاة الخوف جاء في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر قال غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فوازينا العدو فصاففنا لهم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي لنا فقامت طائفة معه وأقبلت طائفة على العدو وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه وسجد سجدتين ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل فجاءوا فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ركعة وسجد سجدتين ثم سلم فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين
وسبب خروجه صلى الله عليه وسلم إلى هذه الغزوة أنه بلغه أنهم جمعوا جموعا لمحاربته صلى الله عليه وسلم فأخبر أصحابه وأمرهم بالتجهز ثم خرج في أربعمائة من أصحابه وقيل أكثر من ذلك واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري رضي الله عنه وقيل عثمان بن عفان رضي الله عنه وسار إلى أن وصل إلى موضع يسمى وادي الشقرة وبث السرايا فرجعوا إليه من الليل وأخبروه أنهم لم يروا أحدا فسار حتى نزل نخلا وهو موضع من نجد من أراضي غطفان فلم يجد في مجالسهم إلا نسوة فأخذهن فبلغ الخبر القوم فخافوا وتفرقوا في رؤوس الجبال ثم اجتمع جمع منهم وجاءوا لمحاربة جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخاف
[ نقص ؟ ؟ ]
الناس بعضهم بعضا ولم يكن بينه وبين القوم حرب
وفي هذه الغزوة وقعت قصة الرجل الذي اخترط سيفه صلى الله عليه وسلم وهو نائم تحت الشجرة واسم الرجل دعثور وقد جاء في صحيح البخاري عن جابر عن عبد الله رضي الله عنهما أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه ( 1 ) فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة ( شجرة طلح ) فعلق بها سيفه قال جابر فنمنا نومة ثم إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم . إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا مجردا فقال لي من يمنعك مني ؟ قلت الله . فهاهو ذا جالس . ثم لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم
_________
( 1 ) الواحدة عضاهة . هو كل شجر ذي شوك أو ما عظم منه

0 commentaires:

إرسال تعليق